الجماعة الإسلامية وشرعنة القتل.. كيف كانت فتوى الدم طريقًا نحو الاغتيال؟
على غرار البيت الذي قتل صاحبه، الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم، تلك القصة المشهورة عن الشاعر العربي أبي الطيب المتنبي الذي قُتل بعد أن ذُكّر ببيت شعره، تأتي مأساة المفكر والكاتب الصحفي الراحل فرج فودة، الذي دفع حياته ثمنًا لكلماته. ففي 8 يونيو 1992 اغتالته يد الجماعة الإسلامية في القاهرة، بعد مناظرته الشهيرة "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية"، التي واجه فيها رموز التيار الديني آنذاك، مثل الشيخ محمد الغزالي والمستشار مأمون الهضيبي، مرشد جماعة الإخوان المسلمين - وقدئذ- والدكتور محمد عمارة، أمام عشرين ألف شخص. حجج فودة القوية واستشهاداته التاريخية حول إخفاق الدولة الدينية طيلة 13 قرنًا، كانت كفيلة بأن تثير حنق خصومه الذين أصدروا فتاوى دموية انتهت بقتله.

وتتابع "بوابة وجريدة الفجر" في ذكرى اغتياله، لمحات من حياة هذا الكاتب المثير للجدل، الذي خالف التيار وصدم الوعي الجمعي، فواجه الإرهاب بجرأة الكلمة حتى أسقطه رصاص الغدر.
مناظرة القاهرة الدولية للكتاب.. البداية العلنية للصدام
كانت الشرارة الأولى في معرض القاهرة الدولي للكتاب في 7 يناير 1992، حيث عُقدت مناظرة تحت عنوان: "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية". جلس فرج فودة إلى جانب الدكتور محمد أحمد خلف الله مؤيدًا للدولة المدنية، بينما وقف في الجهة المقابلة الشيخ محمد الغزالي، والمستشار مأمون الهضيبي مرشد الإخوان آنذاك، والدكتور محمد عمارة، بحضور عشرات الآلاف.
شهدت القاعة سجالًا فكريًا ساخنًا، تبادل فيه الطرفان الاستشهادات التاريخية والفقهية. تحدث عمارة عن استمرار الدولة الدينية 13 قرنًا، متسائلًا كيف يمكن إنكارها، فيما رد فودة بأن ما نتج عنها لم يكن سوى الاستبداد والعنف وسفك الدماء، وصولًا إلى تحويل البشر إلى أشلاء. كان رده صريحًا وصادمًا.
أكثر ما أثار الجدل أن فودة استشهد بأقوال الغزالي نفسه المنشورة سابقًا، حيث أقر بأن الخلافة الراشدة كانت راشدة فقط في عهدها الأول، لكنها فقدت رشدها في العصور التالية. بهذا المنطق، وجّه فودة ضربة فكرية موجعة لخصومه، مؤكدًا أن التاريخ لا يبرر إعادة إنتاج دولة دينية فاشلة.

مناظرة نقابة المهندسين.. إصرار على المواجهة
لم يتوقف فودة عند حدود مناظرة المعرض، بل واصل حضوره القوي في مناظرة ثانية في 27 يناير 1992 داخل نقابة المهندسين بالإسكندرية، بحضور أربعة آلاف شخص. كان عنوانها أيضًا "مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية"، وهو ما جعلها استمرارًا لمعركة فكرية مفتوحة.
شارك في هذه المناظرة إلى جانب فودة، المفكر الدكتور فؤاد زكريا، رئيس قسم الفلسفة بجامعة عين شمس، بينما وقف على الجهة المقابلة الدكتور محمد عمارة مجددًا، ومعه الدكتور محمد سليم العوا أستاذ القانون المقارن. بدا واضحًا أن فودة لم يكن يخشى المواجهة رغم تهديدات كثيرة وصلت إليه.
في هذه المناظرة، عزز فودة حججه حول ضرورة الدولة المدنية التي تضمن الحريات وتصون كرامة الإنسان، مقابل الدولة الدينية التي تحكم بالوصاية وتقصي المخالفين. لم يكن كلامه تنظيرًا مجردًا، بل كان يربطه بالواقع الملموس حيث استدل على أن التيارات الدينية لم تقدم سوى العنف في مواجهة المجتمع.
فتوى الدم.. الطريق إلى الاغتيال
لم تمر تصريحات فودة مرور الكرام، بل أثارت غضب التيار المتشدد الذي رأى فيها خروجًا على "الثوابت". سرعان ما صدرت فتاوى تكفيرية من بعض شيوخ التطرف تحكم بإهدار دمه. اعتُبرت تلك الفتاوى بمثابة الضوء الأخضر لشباب الجماعة الإسلامية للتنفيذ.
كان الهدف إسكات الصوت المختلف، فالكلمة بالنسبة لهم أخطر من الرصاص. أرادوا أن يكون اغتياله رسالة لكل من يفكر في مواجهة مشروعهم السياسي بجرأة، وهو ما كشف عمق الأزمة بين حرية الفكر وسلطان التطرف.
في 8 يونيو 1992، وقبيل أيام من عيد الأضحى، نصب شابان من الجماعة الإسلامية كمينًا له أمام مكتبه بمصر الجديدة، هما أشرف سعيد إبراهيم وعبد الشافي أحمد رمضان. وما إن خطا فودة نحو سيارته بصحبة ابنه وصديقه، حتى أمطراه بالرصاص ليسقط مضرجًا بدمائه.
لحظات الاغتيال الأخيرة
بعد إطلاق النار، هرع المارة وأفراد الشرطة للقبض على أحد المتهمين، فيما نُقل فودة إلى المستشفى وهو ينزف بشدة. استمرت محاولات إنقاذه ست ساعات كاملة، لكن الرصاص كان قد أنهى حياته.
خلال وجوده في المستشفى، زاره عدد من أصدقائه المقربين، أبرزهم الفنان عادل إمام الذي كان يعتبره رمزًا للتنوير والجرأة الفكرية. ظل إمام إلى جواره حتى اللحظات الأخيرة، لكن الأطباء أعلنوا وفاته، ليسدل الستار على حياة رجل اختار أن يقول "لا" في وجه التيار الجارف.
اغتيال فودة لم يكن مجرد حادث جنائي، بل كان جريمة سياسية وفكرية بامتياز، قصدت اغتيال الفكرة قبل صاحبها، ورسالة تخويف لكل مثقف أو مفكر يجرؤ على تحدي خطاب العنف والكراهية.

سيرة حياة قصيرة وعمر فكري طويل
وُلد فرج فودة في 20 أغسطس 1945 بقرية الزرقا بمحافظة دمياط. التحق بكلية الزراعة بجامعة عين شمس، وحصل عام 1967 على بكالوريوس الاقتصاد الزراعي، في الشهر نفسه الذي فقد فيه شقيقه الأصغر الملازم محيي الدين فودة، شهيد حرب يونيو. هذه التجربة عمقت بداخله الحس الوطني والتمرد على الهزيمة.
شارك فودة في مظاهرات الطلاب عام 1968 ضد سياسات عبد الناصر، واعتقل لأيام قليلة. ومنذ شبابه، عُرف بجرأته في طرح القضايا المسكوت عنها. كتب مقالات وكتبًا عدة أبرزها "الحقيقة الغائبة" و"زواج المتعة" و"الملعوب"، حيث تناول فيها بالنقد فكرة الدولة الدينية والتوظيف السياسي للإسلام.
ورغم أن رصاص الغدر أنهى حياته وهو في السابعة والأربعين، إلا أن أفكاره لا تزال حية، تُقرأ وتناقش وتستفز العقول. بقي اسمه مرتبطًا بالشجاعة الفكرية، ورمزًا لمثقف لم يساوم، بل دفع حياته ثمنًا لمواقفه.
اغتياله كشف أن معركته لم تكن شخصية، بل هي معركة مجتمع بأكمله مع إرهاب فكر إرهابي لا يؤمن بالحوار المُتبادل ولا أثير الكلمة المستنير المدرك لواقعية الحدث والتعاطي مع مُجريات العصر.
0 تعليق