عاجل

د. هديل زغلول تكتب: يا جبال أوبي معه والطير - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كثيرًا ما قصدت مشايخي متسائلة عن سبب إحساسي بالقرب والحضرة الإلهية وانا وسط الطبيعة، اشعر بسعادة غامرة حين تلامس قدمي البساط الأخضر، يقولون أنه يرفع هورمون الدوبامين ويفتح شاكرا التاج ولكنه شعور أعمق بكثير، أكاد انسى الوقت حين أراقب النجوم المسخرات بأمره في السماء،،،

سألت احدهم عن سبب خشوعي، حين أطعم حيوان أو طير أو أتكيء على جزع شجرة وحين أتامل في صمت وبلا حراك النحل والفراشات فوق الورود والنمل وهو يجمع طعامه ويذهب إلى مخبأه بشكل منظم وتنفيذًا لخطة عمل محكمة يعلم كل فرد من الجماعة دوره ووجباته،،،

أجابني مبتسمًا: "يا بنتي.. حالك هو من دواعي خلف الله لآياته، السموات والأرض، الشمس والقمر والنجوم والكواكب، الطير والشجر والدواب والجبال.. وهو التدبر والتأمل في عظمته.. وفطرتك تميل إلى خالقها"،،، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾().

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ۚ وَهُوَ عَلَىٰجَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾()

﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّۗ﴾().

وهنا حضرني نبي الله داوود هذا الفتى الوسيم ذو العينين الزرقاوتين المقاتل الشجاع الذي آلان الله له الحديد ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾()، ذلك المعدن الذي يحتاج لإنصهاره ما يزيد عن 1500 درجة مئوية في أفران عالية مجهزة ثم يتم توجيهه إلى قوالب لتشكيله في عملية معقدة تتطلب إعمال معايير الصحة والسلامة، فقد كان داوود يقطعه ويشكله قطعًا صغيرة ويصلها بعضها ببعض ويصنع السيوف والدروع بدقة فائقة ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾().

لم يدخل داوود معركة إلا وانتصر فيها وكان يعلم أن هذا النصر من عند الله.. قفز إلى قمة الشهرة في قومه بعد أن وقف باسلًا في وجه جالوت الظالم وانتصر عليه، وأصبح قائدًا للجيش وتزوج ابنة الملك وصار ملكًا بعد طالوت،،،

وزاده الله من عطاياه فأنعم عليه بالحكمة وفصل الخطاب وقدرة التمييز بين الحق والباطل فكان داوود قاضيًا عادلًا يحكم بين الناس بما يرضى الله عز وجل وينصر المظلوم ويرد الحقوق لأصحابها ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾()،،،

فقد كان يعلم أن هذا النصر من عند الله وأنه هو مصدر القوة الحقيقية، لم يعرف الأنبياء ما نسميه في عالمنا بــــــــ "الإيجو"، فما زاده النصر سوى عمل وشكر لله ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾(). وتسبيحمن أكرمه بالنصر ﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾().

أحب الناس داوود مثلما أحبته الطيور والحيوانات والجبال، ولكنه لم يكترث أبدًا لمدح الناس، فحين يمدحك الناس هذا فضل وستر من الله عليك،،،

لم يكن داوود من أسرى الشهرة والمجد والسلطة وشهوة العلم والمعرفة، نحن أمام معدن بشري من طراز خاص، إنسان بلغ من الشفافية والقرب أن انكشفت الحجب بينه وبين الكائنات وكان له نفس تمتزج بذرات الطبيعة، وصل لقمة ما تشتهيه النفس البشرية ولكنه قادر على الترك والاستغناء،،،

فكان يذهب إلى الجبال والصحراء مثلما اعتاد جده موسى، وهناك يجد نفسه بين أحضان الوجود البكر في عزلة يحيها الأنس بالله صائمًا ساجدًا باكيًا ساهرًا تاليًا للزبور، قال رسول الله  ﷺ إن أفضل صيام هو صيام داود عليه السلام الذي كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان شجاعًا في الحرب، وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتًا، وله ركعة يبكي فيها يبكي فيها قلبه ويتأثر بها كل شيء من حوله،،،

فقد وهبه الله عز وجل أجمل صوت على وجه الكرة الأرضية وكان صوته يجذب الوحوش للإستماع لتلاوته وتجتمع حوله تشاركه صلاته وتتهافت وتتزاحم الطيور للتسبيح معه ﴿وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾َ()متناغمةومطيعة له، وإنصاعت سيقان الشجر لصوت ترنيمه واتصلت ذراتالجبال بذبذبات تسبيحه ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّوَالْإِشْرَاقِ﴾َ()،،،

وذابت الحدود بين داوود ومخلوقات الرحمن وهي ترتل معه آيات الزبور ترتيلًا في مشهد رائع، السماء تهتز لتنفيذ الأمر الإلهي ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر﴾َ().

فأتسقت جميعها في نغم واحد أوركسترا وداوود المايسترو يردد الذكر والتسبيح وكلمات من نور﴿وسخرنا الجبال يسبحن معه والطير﴾َ().

كم تمنيت أن احضر هذا المشهد الجليل وأشارك في هذه الحضرة مختبئة وراء الأغصان اخفت بصلاتي معهم،،،.

مات داوود فجأة كما تقول الروايات، وشيع جنازته أربعون ألف راهب، مع آلاف غيرهم من الناس، فلم تشهد بني إسرائيل شخصية محبوبة بعد موسى مثل داوود، وآذت الشمس الناس فدعا سليمان الطير "أظلي على داوود"، فأظلته حتى أظلمت عليه الأرض، وسكنت الريح وقال سليمان للطير: أظلي الناس من ناحية الشمس وتنحي من ناحية الريح" فأطاعت الريح وأطاعت الطير،﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾َ().

فكان ذلك أول ما رآه الناس من ملك سليمان، فإذا رأيت الفرع مثمر، فأعلم أن الشجرة مباركة ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾َ().

مات داوود وترك لنا إرث من أنوار نهتدي بها في الحكمة والعلم والشجاعة وقوة اليقين بالله والإيمان بقدرات الإنسان الموصول بالله، وكما يقول العارفين التخلية والتحلية، تخلية القلب من الاطماع والشهوات والشرور ويأتي بعدها التحلية وهي حال وجودك مع الله وتسبيحك في قلبك ايًا كان مجلسك كما وصفه الحلاج "ولا جلست إلى قوم احدثهم إلا وانت حديثي بين جلاسي".. وإن كنت مع الله يا صديقي فأنت مع العالم كله وأصبحت من أهل القرب ولائق للألهامات والعلوم الراقية تتخطى نفسك وتعلو عليها كما ترك داوود نفسه وذهب إلى الله ففتح عليه أبواب السموات والأرض ومكنه تمكينًا،،،

ولعل مما تركه لنا داوود هو حب خلق الله أجمعين والتسليم بأن الله سخرهم جميعًا لنا،﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾َ()، انت أيها البشري مخلوق عظيم يستمد عظمته من خالقه عليك أن تدرك أن الله نفخ فيك من روحه وكرمك وأمر الملائكة المسبحين أن يسجدوا لك ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾َ().

فلا تسمح بتدنيس قلبك ولا تجعل لإبليس عليك سلطان وحصن نفسك ولا تجعلها أمارة بالسوء فتقلب لك حياتك رأسًا على عقب، وزكي قلبك بإستمرار حتى تكون جاهز لإستقبال الانوار، فإرث داوود يدركه القلب المحب ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾َ()،،،

حينما يهتدي الإنسان بصدق يصير عنده نور﴿وجعلنا له نورا يمشي به في الناس﴾َ()، يصبح قادر أن ينقذ نفسه،  فيكون هو بحد ذاته إلهام لمن حوله، وهنا يصل لمرحلة لم يعد بها ينتظر الخلاص من أحد، صار الخلاص ينبع من داخله ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾َ()،،،

كان ابن العربي يرى الأنبياء بهذه الطريقة، فالأنبياء بالنسبة له ليسوا مجرد قصص صارت وانتهت ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾َ()، بل كل نبي هو رمز ومفتاح لباب من أبواب الوعي، اسمح لهذه المقامات الآن أن تنعكس بداخلك وصر أنت الهداية التي تبحث عنها،،،

وأخيرًا اذهب للطبيعة كلما سنحت لك الفرصة، غير منظورك لمخلوقات الله فهي تصلي وتسبح وتحمد مثلك بل يمكن حتى أكثر منك ﴿أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾َ()، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّنشَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًاغَفُورًا﴾()، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾()، انظر إلى الجبال وتذكر أن الله تجلى عليها  ﴿انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ﴾َ()، انظرإلى النملة وتذكر ان الله أوحى لسليمان ان يغير مسار جيش بأكمله من أجل قومها ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾َ()

انعزل ولو لدقائق ناجي الله حبًا وعشقًا ليس خوفًا أو طمعًا، وتذكر أن كل هذا الكون خلق لأجلك وسُخر لك ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾َ() فانت موصول به، وهو مستقر بداخلك يقول سيدنا علي باب مدينة العلم والانوار "دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ.. وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُر.. أَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير.. وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَر "ُ، فانت قادر بإذن الله على تحقيق نواياك، "اذهب حيث شئت فإنك منصور".. 

الهوامش

3

0 تعليق