درع آسيا أمام الفوضى التجارية - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تعيش آسيا واحدة من أكثر اللحظات تعقيداً في تاريخها التجاري الحديث، بعدما اجتاحت رياح الحماية الأمريكية المنطقة، مهددةً قواعد التجارة والاستثمار التي قامت عليها معجزة النمو الآسيوي خلال العقود الماضية.
فما كان في السابق استثناءً، أصبح اليوم عادةً شبه يومية. تهديدات بفرض رسوم جمركية جديدة، صفقات ثنائية غير متوازنة، وتوتر متصاعد يربك سلاسل الإمداد ويجمّد الاستثمارات.
ومنذ اندلاع الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، انقلبت أكبر علاقة تجارية في العالم رأساً على عقب. فتراجعت حصة الصين من واردات الولايات المتحدة إلى النصف تقريباً مقارنة بعام 2017، في حين تتصاعد المواجهة حول التكنولوجيا وأشباه الموصلات والمعادن الحيوية، ما يعمّق مسار «فك الارتباط» بين الاقتصادين الأكبر في العالم.
غير أن الأثر الحقيقي لهذه الرسوم لم يظهر كاملاً بعد، إذ ثمة فجوة زمنية بين الإعلان عن التعرفة الجمركية وتحصيلها فعلياً، فضلاً عن أن التهديدات وحدها تكفي لإبقاء مناخ الأعمال في حالة من القلق الدائم. ومع غياب يقين واضح، تجد الحكومات والشركات نفسها مضطرة لتقديم تنازلات من دون مقابل تقريباً، فقط لتخفيف حالة عدم الاستقرار.
لكن هذه الصفقات الثنائية، كما يتضح، لم تجلب سوى القليل من الاطمئنان. اليابان، على سبيل المثال، خاضت مفاوضات شاقة انتهت بترتيبات هشة تعتمد على نزوات البيت الأبيض أكثر من القواعد الراسخة. والأسوأ أن هذه الصفقات تمثل خرقاً واضحاً لمبدأ الدولة الأكثر التزاماً بقواعد منظمة التجارة العالمية، التي تقوم على المساواة في المعاملة، ما يهدد بإرساء منطق «القوة تصنع الحق» في النظام التجاري الدولي.
وفي مواجهة هذا الواقع، تبدو الحاجة ملحّة لتعزيز التعاون بين الاقتصادات التي تراهن على القواعد لا على القوة. وهنا يبرز دور رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وشركائها في صياغة موقف موحّد يحمي مصالحهم. فاقتصادات آسيان تواجه ضغطاً مباشراً من الرسوم الأمريكية، كما تعاني تدفق الصادرات الصينية المتجهة إلى أسواقها بديلاً عن السوق الأمريكية، الأمر الذي يفاقم التحديات أمام صناعاتها المحلية.
حتى الآن، اكتفت دول آسيان بإظهار موقف جماعي في البيانات الرسمية، لكن الخطوات العملية ما زالت محدودة. وكما تشير الأبحاث، فإن بناء آليات تنسيق أوثق، مثل تبادل المعلومات التفاوضية، واعتماد مبادئ مشتركة للتعامل مع القوى الكبرى، وتفعيل فريق العمل «الجيو-اقتصادي» الذي أطلقه قادة آسيان، يمكن أن يعزز صمود المنطقة في وجه الضغوط.
الاتفاقيات الإقليمية الكبرى، مثل «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة»، و«اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ»، توفر منصات مهمة لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة أو أي قوة منفردة. فبدلاً من التفكير في دمج هذين الاتفاقين بما يحمله ذلك من تعقيدات، يمكن البناء على نقاط الالتقاء بينهما وتوسيع مجالات التعاون، بما يرسل إشارة واضحة بأن آسيا متمسكة بنظام تجاري قائم على القواعد.
لكن الإرادة السياسية هي العامل الحاسم. إذ يمكن لقمة رفيعة المستوى بين قادة الدول المنخرطة في هذه الاتفاقات، أن ترسم اتجاهاً استراتيجياً وتحدد أولويات التعاون. وأن توفر أيضاً، مع عضوية المملكة المتحدة، جسراً نحو مزيد من الشراكات العالمية. أما أوروبا، التي اضطرت هي الأخرى إلى تقديم تنازلات كبيرة لترامب، فهي شريك طبيعي في هذا المسعى، إذ تتقاطع مصالحها مع مصالح آسيا في الدفاع عن النظام التجاري متعدد الأطراف.
في نهاية المطاف، لا تملك آسيا ترف الانتظار أو الاكتفاء بردود فعل متفرقة. فالعالم يتجه نحو نظام أكثر صفريّة، حيث الخاسرون كُثر والفائزون قلة. والسبيل الوحيد لتقليل الخسائر هو مضاعفة الرهان على الانفتاح والتكامل والتمسّك بالقواعد. فإذا استطاعت القارة الصفراء أن تحافظ على أسواقها مفتوحة وأن تعزز التعاون الإقليمي، فلن تخرج أكثر قدرة على مواجهة العاصفة الراهنة فحسب، بل قد تسهم أيضاً في إطلاق نظام تجاري عالمي جديد أكثر عدالة واستقراراً.
افتتاحية «منتدى شرق آسيا»

0 تعليق