اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين، لم تعد هذه الأزمة مجرد نظرية اقتصادية، بل تحولت إلى واقع عالمي مقلق، تفاقمت حدته مع جائحة كوفيد-19 التي وصفتها اليونسكو والبنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) بأنها «كارثة تعليمية عالمية»، حيث انقطع أكثر من 1.6 مليار طالب عن الدراسة، وخسر الطلاب في العديد من الدول النامية ما يعادل سنة كاملة من التعلم، مما يهدد بولادة «جيل ضائع» إذا لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة.
إن هذا المقال لا يهدف فقط إلى عرض حجم الأزمة، بل يسعى إلى تقديم تحليل بنيوي لأسبابها وتجلياتها، استناداً إلى البيانات والأدلة، مع رؤية إستراتيجية لإنقاذ المنظومة التعليمية من «انهيار صامت» يهدد مستقبل أجيال بأكملها.
مؤشرات الانهيار البنيوي في التعليم.. تشخيص الأزمة
لم تعد الأزمة مجرد «تراجع» في الأداء، بل أصبحت تشكل «انهياراً بنيوياً» في أسس المنظومة التعليمية، حيث لم تعد المدارس قادرة على تحقيق هدفها الأساسي في إعداد جيل يمتلك المعارف والمهارات اللازمة للحياة والعمل. ويمكن رصد هذا الانهيار من خلال المؤشرات التالية:
1. تدهور التحصيل الدراسي عالمياً
أظهرت نتائج البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA 2022) تراجعاً غير مسبوق في مستويات القراءة والرياضيات على مستوى دول العالم المشاركة في الدراسة، حيث يعادل هذا الانخفاض ما يقارب ثلاثة أرباع سنة دراسية في بعض الدول، بينما يزيد على ذلك في دول أُخرى. والمقلق في الأمر أن هذا التراجع ليس وليد الجائحة فحسب، بل هو امتداد لاتجاه تنازلي بدأ قبل عام 2018، مما يؤكد وجود أزمة هيكلية عميقة.
2. هدر الموارد وضعف الكفاءة
بالرغم من ازدياد الإنفاق على التعليم في العديد من الدول بشكل مطّرد ليصل إلى أضعاف خلال سنوات محدودة، إلا أن النتائج لم تتحسن بنفس القدر. وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن غياب الحوكمة الفعالة يؤدي إلى هدر ما بين 30% إلى 50% من الإنفاق التعليمي في مجالات لا ترتبط مباشرة بجودة التعلم، مثل البيروقراطية الإدارية والمشاريع الإنشائية غير الضرورية.
3. تآكل الثقة المجتمعية في المدرسة
يعكس الإنفاق المتزايد للأسر على الدروس الخصوصية والمدارس الخاصة انهيار الثقة في التعليم الحكومي. وقد أدى ذلك إلى انتشار ثقافة «التعليم من أجل الشهادة» بدلاً من «التعليم من أجل التعلم»، وبروز ظواهر مقلقة مثل الغياب الجماعي للطلاب والاعتماد على الملخصات الموجهة للاختبارات.
4. ضعف إعداد المعلمين وتأهيلهم
كشفت دراسة المسح الدولي للتعليم والتعلم (TALIS 2018) أن حوالى 45% من المعلمين لم يتلقوا أي تدريب مهني فعال خلال خمس سنوات، مما انعكس سلباً على أساليب التدريس التي ما زالت تعتمد على التلقين والحفظ، وتفتقر إلى الابتكار وتنمية مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات لدى الطلاب.
5. غياب الرؤية الوطنية وأنظمة المساءلة
وفقاً لتقرير اليونسكو لعام 2021، فإن أكثر من 60% من الدول لا تمتلك رؤية وطنية واضحة للتعليم، تستند إلى مؤشرات أداء قابلة للقياس ونظام مساءلة صارم، مما يجعل الإصلاحات شكلية وغير مرتبطة بالواقع.
إن وراء هذه الأرقام حقائق أشد خطورة: فالجيل الذي عانى من إغلاق المدارس في عام 2020 وحده يُتوقع أن يخسر نحو 3% من دخله مدى الحياة، فيما قد تخسر اقتصادات الدول ما يصل إلى 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً. هذه ليست مجرد أرقام، بل تحذير صارخ من أن ملايين الطلاب قد يدخلون سوق العمل دون المهارات الأساسية، مما يجعل التعليم عاملاً للفقر بدلاً من التمكين، وعلى مستوى الدول وفي السنوات الأخيرة، لم يعد التعليم مجرد خدمة اجتماعية، بل أصبح ركيزة اقتصادية محورية لأي دولة تطمح إلى تحقيق النمو والتنافسية في الاقتصاد العالمي.
إن انهيار النظام البنيوي للتعليم يقود إلى آثار اقتصادية من أهمها: انخفاض الإنتاجية الوطنية، خسائر في الدخل الوطني والتكاليف الخفية مثل (انخفاض كفاءة سوق العمل، وتقلص فرص الحصول على وظائف جيدة، وارتفاع الاعتماد على برامج الدعم الحكومي)، ارتفاع معدلات البطالة والتوظيف غير المنتج، تراجع القدرة التنافسية والابتكار، ارتفاع الإنفاق الحكومي على الإعانات والعلاج اللاحق.
إن الانهيار البنيوي في التعليم ليس مجرد أزمة عابرة يمكن معالجتها بمبادرات سطحية أو اجتهادات فردية، بل هو فشل في وظائف النظام التعليمي الأساسية، يتطلب مشروعاً وطنياً شاملاً لإنقاذ مستقبل أجيال بأكملها. وهنا يتبادر الي الذهن مجموعة تساؤلات: أين تعليمنا من هذه الحالة؟ هل لدينا مؤشر وطني دقيق يرصد حجم الخسائر التعليمية التي تراكمت خلال السنوات الماضية ويقيس مداها الحقيقي؟ وهل وضعنا بالفعل برنامجاً وطنياً متكاملاً لإصلاح الخلل وتعويض الفاقد التعليمي الذي انعكس على مخرجاتنا البشرية؟ إلى أي مدى نملك اليوم آليات قياس علمية تربط بين نتائج اختباراتنا الوطنية والدولية مثل TIMSS وPISA وبين السياسات والبرامج التعليمية المطبقة؟ وما زال الغائب الأكبر هو: تقدير الكلفة الاقتصادية لهذه الخسائر التعليمية، وما تسببه من فجوة في سوق العمل والتنمية الوطنية والتكلفة الاجتماعية.
إن التحدي الذي يواجه منظومة التعليم اليوم لم يعد تحسين التعليم من خلال مبادرات مجزأة أو بالاعتماد على تجارب دول لها ظروفها ومعطياتها التي تختلف كلياً عن ظروف ومعطيات الدولة التي تسعى للتطوير والإصلاح، بل إنقاذه من انهيار صامت ومتسارع أوضحته الدراسات على مدى أكثر من عقدين من الزمن. ويجب أن ندرك بأنه دون اتخاذ إجراءات حاسمة وعاجلة، سيظل تحذير هانوشك حياً، ليس فقط في الأبحاث الأكاديمية، بل في مستقبل أجيال كاملة قد تُصنف لاحقاً بـ«الجيل المنسي».
أخبار ذات صلة
0 تعليق