عاجل

فرنسا على أبواب أزمة جديدة - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. جاسم المناعي*

يبدو أن فرنسا في مأزق سياسي جديد. البلد يعيش بدون موازنة وقريباً قد يعيش بدون حكومة. الأسباب الرئيسية ترجع إلى عدم التفاهم والانسجام بين الأحزاب السياسية الفرنسية، وبينها وبين حزب الرئيس الفرنسي إيمانيول مكرون. كما أن رئيس الوزراء فرنسوا بيرو معرض لحجب الثقة عن وزارته وذلك يوم الثامن من سبتمبر، حيث سيصوت فيه البرلمان الفرنسي حول هذا الموضوع. ووفقاً لمعرفة المؤيدين والمعارضين فإن فرصة أن يفلت رئيس الوزراء من حجب الثقة تبدو ضئيلة بالرغم من محاولته كسب أصوات الاشتراكيين لصالحه. والوضع برمته يضع الرئيس الفرنسي ماكرون في حالة محرجة، لأنه إذا تم حجب الثقة عن رئيس الوزراء الحالي فإن ذلك يمثل ثاني رئيس وزراء في حكومة ماكرون يتم حجب الثقة عنه على التوالي وفي أقل من عام واحد.
الأخطر من ذلك أن ينعكس الأمر بشكل سلبي على الأوضاع الاقتصادية الفرنسية. الأسواق المالية الفرنسية بدأت تستشعر مثل هذا الخطر حيث إن أسهم أهم البنوك الفرنسية أخذت في الهبوط، كما أن التقييم الائتماني لفرنسا من شأنه أن يتراجع وفقاً لذلك وبالتالي ارتفاع تكاليف المديونية العالية الذي تعانيه فرنسا حالياً. إن مختلف المؤشرات المالية الفرنسية لا تبدو على ما يرام. فعجز الموازنة يقدر بحوالي 5.4% من الناتج الإجمالي المحلي كما أن مديونية فرنسا تصل اليوم إلى 3.3 تريليون يورو أي ما يتجاوز حجم الاقتصاد الفرنسي وبما يمثل أكثر من 116% من الناتج الإجمالي المحلي. كذلك فإن العائد على السندات الفرنسية لمدة ثلاثين سنة يصل إلى 4.42% وذلك تعبيراً عن درجة المخاطر التي تواجه المستثمرين الذين يتطلعون إلى الاستثمار في الأصول الفرنسية.
هناك بالطبع محاولات من قبل الرئيس الفرنسي ومن قبل رئيس وزرائه وذلك لتخفيف عجز الموازنة حيث اقترح الرئيس الفرنسي رفع سن التقاعد كما اقترح رئيس الوزراء الاستغناء عن بعض الإجازات السنوية، إلا أن كل هذه المقترحات باءت بالفشل. وعلى ضوء هذا الوضع تسري حالياً في الأوساط الفرنسية بعض المخاوف من أن يؤدي هذا الوضع إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لانتشال الاقتصاد الفرنسي من المستوى الذي وصل إليه وفى مثل هذه الحالة تكون فرنسا شبيهة بأوضاع الدول الضعيفة التي تستنجد بصندوق النقد الدولي لإنقاذها مما وصلت إليه أوضاعها الاقتصادية.
المرجح أن فرنسا لن تتوقف عن سداد ديونها لكنها مع ذلك قد لا تتمكن من تحقيق معدلات نمو اقتصادي تتطلع إليها. والمشكلة تبدو سياسية أكثر منها اقتصادية حيث إن غالبية الأحزاب السياسية الفرنسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين غير راغبة في التعاون مع الرئيس ماكرون وتتقصد إضعافه، خاصة أنها مجتمعة تمثل أغلبية في البرلمان الفرنسي. المتوقع أن يعيش الرئيس الفرنسي ما تبقى من ولايته على هذه الحال حتى موعد الانتخابات الرئاسية القادمة في عام 2027. الإشكالية هي أن لا أحزاب اليسار ولا اليمين المتطرف قادرة على الوصول إلى السلطة بالرغم من اتساع شعبيتهما خلال السنوات القليلة الماضية.
بالنسبة لأهم أحزاب اليسار وهو حزب فرنسا الأبية، فبالرغم من كونه الأكثر شعبية في الأوساط اليسارية إلا أنه حسبما يبدو يتصف بالشعبوية كما أنه يثير بعض الشكوك لدى الناخب الفرنسي حول توجهاته، خاصة تجاه الاتحاد الأوروبي هذا إضافة إلى تباعده عن بقية الأحزاب اليسارية الأخرى وحتى عن نقابات العمال في بعض القضايا الأيديولوجية. أما بالنسبة لأحزاب اليمين المتطرف فإنها بالتأكيد استطاعت كسب شعبية واسعة خلال السنوات الماضية إلا أن إمكانية وصولها إلى السلطة لا تبدو مع ذلك كبيرة وذلك لعدة أسباب أولها أن الإرث الديغولي والاشتراكي لدى الشعب الفرنسي ما زال مؤثراً، لكن السبب الأهم هو أن زعيمة حزب اليمين المتطرف مارين لوبان قد حكم عليها مؤخراً بالفساد واختلاس المال العام، حيث أصدرت محكمة قضائية فرنسية أحكاماً ضدها منها السجن ودفع غرامة مالية هامة ومنعها من الترشح للانتخابات خلال الخمس سنوات القادمة، أي أنه إذا تم تثبيت هذه الأحكام خلال الاستئناف فإنها في هذه الحالة لن تستطيع الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة في عام 2027. وبالتالي فإن هذا الحكم يحد ليس فقط من وصول رئيسة حزب اليمين المتطرف إلى السلطة بل أيضاً يضعف من حظوظ حزبها في الوصول إلى السلطة أيضاً.
على كل حال فإن مجريات الأمور سوف تتحدد بدءاً من يوم 8 من هذا الشهر حين يصوت البرلمان الفرنسي على موضوع طرح الثقة عن الحكومة الفرنسية عندها قد يصبح الوضع صعباً جداً على الرئيس الفرنسي ماكرون.
وكما يبدو فإن الخيارات أمام الرئيس الفرنسي أصبحت تضيق في محاولة تشكيل حكومة جديدة مقبولة من غالبية الأحزاب السياسية الفرنسية الممثلة في البرلمان خاصة أنه لا يؤيد تعين رئيس وزراء من اليسار المتطرف ولا من اليمين المتطرف في الوقت الذي لا يمثل أتباع حزب الرئيس الفرنسي ثقلاً كبيراً يتيح لهم القبول والتأييد من قبل غالبية أعضاء البرلمان. وهذا الوضع يمثل بالتحديد المأزق الذي تمر به الديمقراطية ليس فقط في فرنسا ولكن أيضاً في كثير من الدول الغربية، حيث الأحزاب المتطرفة الشعبوية سواء يسارية كانت أو يمنية استطاعت الحصول من خلال الاقتراع والانتخاب الديمقراطي على نسبة كبيرة من التمثيل البرلماني، إلا أن الناخب في الدول الغربية ما زال مع ذلك متخوفاً من توجهات هذه الأحزاب وما يمكن أن تؤول إليه الأمور في حال وصول هذه الأحزاب إلى السلطة. هذه في الواقع أهم المعضلات التي تواجه الديمقراطيات في الدول الغربية. على كل حال سوف تتضح الصورة أكثر خلال الأيام القليلة القادمة حول مدى حجم الأزمة السياسية التي تواجه فرنسا وإن غداً لناظره قريب.
*الرئيس السابق لصندوق النقد العربي
[email protected]

0 تعليق