"عربيسكا".. عرض أدائي لخمس "حنظلات" يكتبن التاريخ بالجسد! - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كتبت بديعة زيدان:

 

تتعلق الشابة ذات الثوب الأصفر بحبل، كأنه طوق نجاة لغريقة تتعلق بقشة، أو طريقها إلى وضع حد لنهاية مشوار حياة بائسة، أو لعله تعبير عن تنكيل في الأسر الذي يطوقها بين جدران السجّان، أو غيره، بينما تَعبُر بجانبها مراراً دون أن تأبه أخرى بثوبها الأخضر، قبل أن تحضر ثالثة "رماديّة" تبدو وكأنها تعجن الكون بين يديها، أو لعله الطحين المفقود و"القاتل" في قطاع غزة، قبل أن تضرب بذات اليدين القويّتين الهشّتين في آن، والغاضبتين اليائستين في الوقت ذاته، على الأرض، فتسقط الأولى.
كان ذلك توصيفاً للمشهد الافتتاحي للعرض الأدائي الراقص "عربيسكا"، من إنتاج مسرح السرايا العربي في يافا، واحتضنته قاعة "عشتار" لإنتاج وتدريب المسرح، في رام الله، مساء أول من أمس.
في "عربيسكا"، وهو فكرة وتصميم نور غرابلي، تلتقي خمس فلسطينيات من مدن عدّة، يسافرن عبر الزمن، ويتخطيّن كل الحواجز، ليبنين جسوراً بين الماضي والحاضر، بل ويحلّقن بأنفسهن وبنا نحو مستقبل متخيل.
وما بعد سقوط الشابة "الصفراء" وقيامها، تقتحم فضاء المسرح الأرضي الذي غص بالمشاهدين، الشابتان الرابعة والخامسة بلباسهما "الفستقي"، والآخر القاتم الملتبس بين كحلة غامقة واسوداد، في استكمال للتنوع الفلسطيني المفترض، والقسري في حالةٍ واقعيةٍ من اللا تلاقي، فكان تواصلاً فنيّاً له دلالاته، فيما تواصل "العجّانة" المفترضة، تقديم الصوت الحي قرعاً على الأرضية، قبل أن تقتحم الموسيقى اللا شرقية واللا غربية المشهد، وأعدتها الفنانة يُسر حامد، مُشكّلة إضافة للعرض، عبر "شبابيك باب المدينة"، و"حياة"، و"Cla (Sick)"، و"راحت على الشام"، في مزيج بين الموروث والحداثة في أقصى تجلّياتها التي لم تخلُ من الموسيقى الإلكترونية.
وأكمل مشروع "عربيسكا" الموسيقي التجريبي للفنانة حامد، الإبداعات الأدائية، التي مزجت شيئاً من المسرح، بالرقص المعاصر، وبالدبكة التي شكلت المظلة الجامعة للعرض.
الفنّانات ميسان (ميسو) سمارة، وبريسا أيوب، وديمة وهران، وماريا دلة، إضافة إلى غرابلي نفسها، مارسن نوعاً من العمل الجماعي في زمن استفحال الفردانية، وأعدن تفكيك وتركيب الواقع باستعادة الماضي واستشراف المستقبل، بل واسترجاع ذواتهن وشيء من ذاكرتنا ويومياتنا في كل فلسطين عبر الدبكة الفلسطينية، التي قدمنها بطريقتهن.
وفي لحظة صمت، يقفن، وكأنهن خمس "حنظلات" أنثويات، ظهورهن إلى الجمهور، ولا أحد يعرف أين يقطع ناظر كل واحدة منهن، أو بماذا يفكرن، أو حتى يهجسن، قبل أن يبدأ البوح الجسدي الفردي والجماعي لهنّ، في تعبيرات، لم تخل من ترميز للقوة في الأداء الجسدي أيضاً، عن مكونات جوّانية فردانية وجمعية مفتوحة على التأويل، في حين تعلو الزغاريد، التي ترافق الفلسطينيات عادة في أفراحهن، أو عند سقوط أبنائهن أو أشقائهن أو أزواجهن شهداء.
وفي زمن النجاة الفردانية جراء "أهوال يوم القيامة" في غزة وغيرها من جغرافيات فلسطين، يعكس العمل في لوحاته المتعددة، تلك الروح الجماعية، المستوحاة من زمن انتفاضة الحجارة، بالتزامن مع ذكراها، حين تحمل الواحدة الأخرى، وتحمل المجموعة المنهكة منهن، أو التي تقترب من حتفها، لعلها تنجو، ولا تنتظر من ينتشلها، إن كانت محظوظة، جثة على أرض مُقفرة، ينتظرها حيوان كان أليفاً، وبات مضطراً كي يأكل شيئاً منها، بعد أن حصدتها آلة الحرب الإسرائيلية، كما عشرات الآلاف غيرها.
ويمكن اعتبار "عربيسكا"، الذي تميز أيضاً بدراماتورجيا حلا سالم وإضاءة محمد شاهين، مواجهة بطريقة خاصة وإبداعية لرواية الاحتلال، عبر إعادة كتابة تاريخنا بالجسد، ومن خلال تقديم عملٍ ليس مغايراً شكلاً ومضموناً فحسب، بل يمكن اعتباره سردية مُواجِهة عبر أجساد نسائية، جمعت في لوحات العمل الأدائي الراقص بين الحكايات الشخصية والجمعية المباشرة وغير المباشرة وما وراءها، ودون غياب للترميزات السياسية، ففي مواجهة استعمار إحلالي كولونيالي، كانت الشابات الخمس، لا يرقص أو يدبكن فقط، بل يحتضن بعضهن البعض، في تكوين دعم وإسناد مُقاوم لتفرقة يسعى الاحتلال لتكريسها منذ عقود، وهو ما كان عبر أجساد تتوحّد على أنغام يرغول أشرف أبو الليل، وبصخب الحياة التي تنتصر، أو تسعى لإحداث فارق البقاء الجامح على أرضنا نحن، الأصلانيين، في مواجهة المُحتليّن المستعمرين القادمين من كل أصقاع العالم.

 

0 تعليق