حاوره زياد خداش:
تثيرني فكرة أن يكون الشاعر طياراً، في المشهد ما يفتح المخيلة على سؤال الفضاء، يطير الطيار ماهر القيسي بالناس الى فضاءات بعيدة، وفي الشعر يطير الشاعر القيسي بقرائه الى فضاءات جديدة، تعرفت على ماهر في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الحقيقة كان هدف التعارف الأساسي أن أطمئن منه الى أن خطر وقوع الطائرات ليس بهذه السهولة، ثم تعرفت على نصوصه المميزة، فنسيت معها فوبيا الخوف من الطائرة. هذه دردشة مع ماهر:
*مهنتك طيار مدني تتنقل بين مدن ودول العالم. قل لي يا ماهر هل يتعب نصك وأنت تجره معك كحقيبة سفر؟ أم هو سعيد بالتجوال؟
-أحيانًا يحدث العكس، إذ يجرني النص أو تأخذني القصيدة معها للخارج، وفي الحالتين تتولد حالة من الاغتراب غير مفهومة محفوفة بحنين طارئ، تجعل الجملة أكثر أصالة وأكثر ارتباطاً بالمكان (أي الأردن). وأعترف أن هذا الشيء أضر بالقصيدة في حالات معينة. لكنني بحيلة نفسية معينة وبعد تجريب كثير، استطعت التفاهم مع هذا الحنين واتفقنا على عداوة واضحة في الخارج.
*نصك مرح وحزين في آن، تماماً مثلك، هل نحن نصوصنا؟
-أتفق مع هذا نسبياً.. الشعر خاصةً من بين الأشكال الأدبية الأخرى يحمل السمات الجوّانية والانفعالات البشرية الخالصة.. ينسخ دواخل صاحبه بطريقة أو بأخرى، لكن، هذا يضعنا أمام نصٍ صادق إذا تمت كتابته بلا معالجة، والصدق في الشعور حالة تفجيرية خطيرة، وعليه يجب التعبير عنها من خلال الخيال وصياغتها في نص يتم ابتداع جملته، مع ارتكازها على صدق الشعور إلا أنها تكون مبتدعة. فالصدق ليس مبدعاً في أغلب الأحيان والإبداع هو خلق الشيء من العدم.
عودة لسؤالك، بالتأكيد نحن نصوصنا، ولو اختلفت النصوص فهذا اختلاف دواخلنا وأمزجتنا. فكلنا يحمل عدة شخصيات مرتبطة بحالات ذهنية مزاجية.
*وأنت تقود الطائرة إلى مكان ما. هل حدث مرة وأن هبت عاصفة قصيدة فتراخت يداك عن المقود؟؟ هل يمكن ان يكون الشعر خطراً على مئات الركاب؟
-ههههه
بالتأكيد هبت عواصف كثيرة كانت أساساً ومفتتحاً لقصائد قريبة مني، لكن لم ترتخ يدي عن المقود، فالطيار الآلي ينوب عني وهو يقوم بهذه المهمة على أكمل وجه. وصدقاً أفكر بكتابة شيء عن الطيار الآلي فهو زميل محترم.
لطالما أنقذ الشعر ركاب العالم زياد العزيز، أنقذهم وهو يمضي في مهمته النبيلة، الواضحة التي لا يستطيع تعطيلها أحد، من خلال هذا يعيننا على الحياة حين تقسو علينا وهذا ديدن الحياة أيضاً.
*تسحرني فكرة الشاعر الذي يعمل طياراً. ثمة تشابه رهيب بين الركاب الذين تحملهم إلى المدن البعيدة والقصيدة التي تحمل كلماتها إلى مناطق بعيدة. هل فكرت بهذا التشابه الساحر؟
- كنت أخبرتك أن القصائد تحملني كثيرًا للخارج، وكيف تتولد حالة اغتراب لي ولجملتي وكيف يظهر الحنين بصور كثيرة، فاغتراب الجملة أمر قاس، حيث يقوم أساسها على اللغة ثم الفكرة والثقافة والبيئة، وكل هذا ينتفي في الانتقال لبلد آخر.. ينتفي أمام لغة أخرى وبيئة مختلفة.
في هذه الزاوية لطالما تشابه الركاب مع القصائد، وأتذكر أنني رأيت أحد المسافرين في صالة المطار ذاهبًا معنا إلى(ديترويت) ولفتت ملامحه انتباهي.. تأملت تعابيره وبدا جليًا أنه ذاهب لأمر غير الإجازة. فبعد فترة في الطيران تستطيع التمييز بين المسافر في إجازة أو للعمل أو الزيارة أو الإقامة.. تستطيع التمييز لحد بعيد. فقلت لزميلي: سيتفتق قلب هذا الرجل.. فهو غريب.. غريب مثل عظمة في تفاحة!
*أظن أن كل طيار هو شاعر على نحو ما. الارتفاع عن الأرض فجأة وعناق الغيوم ثم النظر إلى الأرض التي تصغر. كل ذلك لا يمكن أن لا يصنع شعراً ما.. هل توافق؟
-أفهم ما ترمي إليه ولكني لا اتفق معه تماماً.. قد أفهم ما يغيره الطيران في الشخص، فهو شيء ضد طبيعة البشري على كل صُعده.. لكن المشاهدة من الأعلى حالة عظيمة رافدة للمخيلة بطريقة غير مباشرة، أظنها من أهم المحفزات البصرية، لكنها بحاجة لدِربة وعادة كتابة جاهزة قبل التعرض لها وهذا من وجهة نظري.
*فكرة المضيفات الجميلات في الطائرة من اخترعها؟ لا تقل لي أنه ليس بشاعر؟
-أظنه شاعر ومدير عام لشركة ما.. يدعى عرار أو نزار.. نسيت.
*في ديوانك الفاتن "نخب هابيل"، والصادر عام 2022، تقول: "التلة التي كانت ملاذاً في الصبا أقاموا عليها برجاً للطنين".. العالم صار برجاً ضخماً للطنين يا صديقي. هل الشعر نقيض هذا العالم؟
-في العالم جوانب كثيرة تتفق مع الشعر ويتربى الشعر في حضنها. ومنها جوانب قاسية في طبيعتها
لكن العالم خلق متوحشًا، والجملة هذه كانت في وجه التوحش الذي لا سبيل للنجاة منه ومن أثره النفسي إلا في مقاومته والاعتراض عليه.. وإذ تعترض عليه وتؤشر نحوه فأنت تنقذ روحك منه وتخلص آخرين.
فنحن في النهاية نتبارى في قول الجملة الشعرية إزاء هذا التوحش!
0 تعليق