"ملمس الضوء" لنادية النجار.. سردية مُغايرة في مواجهة "العمى"! - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كتبت بديعة زيدان:

 

رواية "ملمس الضوء" للروائية الإماراتية نادية النجار، والصادرة عن منشورات المتوسط في إيطاليا، رواية مركبة، فيها أكثر من حكاية، وأكثر من طبقة سردية، دون أن يُخلّ ذلك بتماسكها الذي يعكس براعة صانعتها.
بسلاسة، ودون تعقيدات، ولكن بعمق أيضاً، يتنقل السرد بين الشخصيات، التي تتحرك في أكثر من محطة زمنية، وبين أكثر من جغرافيا، وعلى وجه خاص دبي والمنامة، في الرواية التي تنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، بوصولها إلى قائمتها القصيرة.
وما بين عشرينيات القرن الماضي و"حقبة كورونا"، يتوزع السرد في "ملمس الضوء"، بشكل أساسي بين زمانين وحكايتين محوريّتين، فـ"نورة" الكفيفة، بعوالمها الداخلية الخاصة، ومحيطها الأسري والعام، تشكّل الشخصية التي هي بؤرة الحكاية الأحدث، حيث العلاقة المتوترة مع والدتها، والعلاقة الوطيدة والحميمة مع جدها لأمها "سالم"، وحيث حكاياتها مع "سيف"، ابن عمها الذي ظهر في يومياتها بعد طول انقطاع.
وفي الحكايات والزمن الآخر، تعود بنا الرواية إلى مطلع القرن الماضي، عبر شخصية "علي"، الذي يعيش في دبي ثم ينتقل إلى المنامة، مفصلة لنا كثيراً من الحكايات والمعلومات عن دبي قبل اكتشاف النفط، والمنامة بعده، وحكايات الإنكليز، والحرب العالمية الثانية، وتأثيراتها على منطقة الخليج، وخاصة البحرين والإمارات.
ويتصاعد السرد مع التقدم في الصفحات، ومع حكايات الشخصيات المتفرقة زمنياً وجغرافياً، حتى تصل الكاتبة ببراعة إلى جمع كافة الخطوط والشخوص، فتتشكل الصورة واضحة امام القارئ.
والرابط بين الزمنين، هي الشخصيات وأجدادها، فمع تقليب صفحات "ملمس الضوء"، تتضح تلك الروابط، فالكفيفة الأحدث "نورة"، تتحصل على صور نادرة من جدها "سالم"، وكان "ضابطاً قوياً أثقلت النياشين كتفيه"، هو الذي لطالما حدثها عن زمانه، وطفولته، وشبابه، لنكتشف أن جدها هو ابن "علي"، الشخصية المحورية في الحكاية القديمة، والذي يقرر الانتقال من دبي للعيش في المنامة.
ويعمل "علي" في المنامة لدى التاجر ناصر بن صالح البحريني، الذي يتجه إلى بلاد الشام، وتحديداً بيروت، بعد رحلة للحج في مكّة، وهناك يتزوج من الكفيفة الأقدم المسيحية "ماري حنة"، وينجبان "سارة"، التي يقع "علي" في حبّها ويتزوجها لينجبا "سالم" جد "نورة".
وفي إطار العلاقة الخاصة بين "نورة" وجدّها "سالم"، كان الأخير يسرد عليها الكثير من الحكايات، وبينها حكاية "عبّود" و"علي"، بحيث "حدثته أمه عن أبيه، وأخبرته بأنها تزوجته بعد أن تخلص العالم من دول كبيرة بعيدة، أكلت اليابس والأخضر من الشجر، وأهلكت الحُمر والسُمر من البشر.. قرّرا ذات مسبغة النزوح من الضفة الشرقية للخليج إلى الغربية كمن سبقوهم من أهل بلدتهم.. هاجروا من لنجة إلى مشيخة دبي على الساحل المتصالح"، ولنجة في إيران، ما قد يشي بأن أصول العائلة فارسية، كما العديد من عائلات دول الخليج العربي، في إشارة غير مباشرة إلى ما عرف بالأزمة الإيرانية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهنا حكاية أخرى تمرّ عابرة كعديد الحكايات في الرواية التي تحتاج إلى قراءة ما وراء سرديّاتها المُباشِرة.
كانت الجدّة العمياء "ماري"، الجميلة كما "نورة"، كتبت مذكراتها، كون لا أحد يعرف عنها شيئاً في البحرين، ومن باب التوثيق لحكايات طفولتها وبلدها، وطلبت من زوجها البحريني التاجر ناصر بن صالح مساعدتها في الكتابة، في حين تمارس "نورة" بنفسها القراءة، مستعينة ببرنامج محوسب، فنعرف شيئاً عن لبنان والكثير عن البحرين والإمارات في عشرينيات القرن الماضي، ومنها ما ورد عن "ماريون ويلز أو حكيمة في البحرين، عالجت الكثير من المرضى وخاصة النساء، وكانت تركب حمارها وتطوف على البيوت لعيادة مرضاها.. قدمت الحكيمة إلى المنامة بداية القرن مع زوجها الحكيم شارون ليعملا في مشفى الإرسالية، قادمين من البصرة، بعد أن تعلّما شيئاً عن العربية، لكنها بعد خمس سنوات أصيبت بحمى التيفوئيد، وتوفيت، ودفنت في مقبرة المسيحيين بالمنامة.. أخبرتني الممرضة التي تعمل هناك بالقصة الحزينة، وأنهم سمّوا المشفى على اسمها"، وكان ذلك يوم الجمعة 6 أيار 1927.
ومن بين مذكرات الجدّة العمياء، نعثر على حكاية تعكس نوستالجية الرواية، بشكل أو بآخر، حيث "العم إلياس عازف الربابة، لمّا كان يعزف في سهرات المشتى ليلاً على قناديل الزيت، فتذكرت أعيادنا المجيدة".
وتعكس حكاية "ناصر" و"مارية"، وما ذكر حول "الحكيمة" و"مقبرة المسيحيين"، ذلك التسامح الديني في زمن مضى، ولم يعد، ربمّا، كما كان، ولعلها رسالة من بين الرسائل المهمة في ما وراء السرد، للحديث عن التحولات في هذا الجانب لدى العديد من المجتمعات الخليجية، وارتفاع وتيرة التشدد المجتمعي، المتكئ إلى تفسيرات دينية، مع الوقت، حتى باتت تتسيّد الموقف في العمق، وإن كان الظاهر الحديث للغاية يبرز صورة مغايرة قد تكون سرابية.
ثمة الكثير من التفاصيل التي لا تشكل إقحاماً على السرد، بل تشكل خيوطاً أساسية في تشكيل تطريز روائي محكم، حيث الحديث عن حكايات دبي العتيقة، واستخراج اللؤلؤ وطقوسه ما قبل اكتشاف النفط، الذي اكتشف في البحرين قبل الإمارات، وعن سطوة الإنكليز على البلاد عامة، وعلى بترولها خاصة، وانعكاسات الحرب العالمية الثانية في الخليج العربي على الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
ويمكن اعتبار "ملمس الضوء" رواية صورة، إن جاز التعبير، بحيث تتخذ "نورة" من قراءة الصور وسيلة للحديث عما جرى في الماضي، وكأنها تستنطق الأحداث من خلال كشف ماهية الضوء في هذه الصور، مستخدمة أحد برامج الذكاء الاصطناعي الذي يمكنها من قراءة أو مشاهدة محتواها، بحيث تشكل الصور الجسر الرابط بين الماضي والحاضر، علاوة على حضور الصورة كمكوّن في بعض الأحداث، فالجد الأكبر "علي" تعلم أسرار التصوير وأسرار "عكّاسة الصور" (الكاميرا)، من المصور الأميركي جوزيف الذي تعرف إليه في البحرين، علاوة على كون الرواية جلّها اعتمدت تقنية التصوير بالكلمات، التي شكلت الحاسة المفقودة لكل من "ماري" و"نورة"، أو شكلت أداة تعاطت معها النجار بذكاء لجهة رسم أو تخيّل الشخوص.
في رحلة عبر أجيالٍ عدة، تكشِف "نورة" تاريخ عائلتها، وبعض الأسرار من خلال هذه الصور الفوتوغرافية عتيقة، وهي رحلة لاكتشاف الضوء في أزمنة العمى المتواصلة، رغم قناعتها بأن الأعمى "ذلك الذي لا يرى سوى ما يود رؤيته".
وعبر أربعة أبواب تعكس الحواس الخمس دون البصر، كـ"الصوت"، و"الرائحة"، و"المذاق"، و"اللمس"، تقدّم النجار رواية تتقاطع بشكل أو بآخر مع الفنون البصرية، في محاولة لتقديم سردية مغايرة حول "العمى"، وتأويلاته المتعددة، بفلسفتها الخاصة، وبتقشف متعمد، ودون بروز "العمى" كثيمة محورية في الرواية، وذلك عبر دلالات ورمزيات "ملمس الضوء"، في عنوانها ومتنها، وحكايات شخوصها، ومن بينها أن "نورة"، اسم الشخصية المحورية في الرواية، يعني "الضوء"، وبالتالي فهي رواية مواجهة للعمى بحالاته المتعددة، اللاحسيّة منها قبل الحسيّة.
ويبقى الإشارة إلى أن الشخصيات في الرواية، تم إدارتها وتحريكها من قبل صاحبة "ملمس الضوء" ببراعة، وإلى أنها نجحت في التوثيق، بطريقة إبداعية، لحقبة زمنية عتيقة في الخليج العربي، لم تغيّب فيها الحراك الثقافي، والتطرق لمجموعة من مبدعي الخليج في مطلع القرن الماضي، كالكاتب عبد الله الزايد، والشاعر الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة، وشاعر البحرين إبراهيم العريض، وعبد الرحمن المعاودة، وخالد الفرج، وغيرهم.

 

0 تعليق