أحداث الساحل السوري بين رواية دمشق وتقرير لجنة الأمم المتحدة - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بعد أسابيع من نشر اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق تقريرها حول أحداث الساحل السوري في مارس/آذار الماضي، جاء تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا حول تلك الأحداث ليعيد هذا الملف إلى واجهة الجدل السياسي والحقوقي في البلاد.

التقرير الأممي الصادر في ظرف انتقالي بالغ التعقيد، يضع روايته جنبًا إلى جنب مع الرواية الوطنية، كاشفًا عن تقاطعات لافتة في توصيف حجم الانتهاكات وخطورتها، وفي المقابل مبرزًا تباينات في قراءة الدوافع وتحديد المسؤوليات.

وبينما يسلّط التوازي بين التحقيقين الضوء على تنوّع المنهجيات واختلاف زوايا النظر، فإنه يفتح الباب أمام تساؤلات أعمق حول ما إذا كانت هذه النتائج ستتحول إلى خطوات ملموسة نحو العدالة المنشودة.

رئيس الجمهورية العربية السورية السيد أحمد الشرع يتسلم التقرير النهائي للجنة الوطنية للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث آذار المنصرم بالساحل السوري، وذلك بعد إنهاء عملها. الصور من الوكالة العربية السورية للأنباء - سانا
الرئيس السوري أحمد الشرع (يمين) يتسلم التقرير النهائي للجنة الوطنية للتحقيق في أحداث الساحل (سانا)

من يتحمّل المسؤولية؟

في مارس/آذار الماضي، أسفرت المواجهات عن سقوط مئات الضحايا في مدن وبلدات اللاذقية وطرطوس، معظمهم من المدنيين، وسط اعتراف من الحكومة السورية بارتكاب عناصر في الجيش انتهاكات، مما دفعها لتشكيل لجنة للتحقيق في ملابسات ما حدث، وتحديد هوية المسؤولين عن ارتكاب الانتهاكات من الطرفين.

ورغم تقاطع نتائج عمل اللجنتين الوطنية والدولية في توصيف حجم الانتهاكات وخطورتها، فإن جوهر الجدل تمحور حول سؤال من يتحمل مسؤولية الانتهاكات التي جرت في الساحل السوري؟

وخلص تقرير لجنة التحقيق الأممية إلى أن جرائم حرب ارتُكبت من جانب طرفي الصراع؛ إلا أنه أوضح أنه لم يجد دليلاً على وجود سياسة أو خطة حكومية منظمة لتنفيذ تلك الهجمات، مرجحًا أن ما وقع كان نتيجة أفعال مجموعات شاركت في العمليات العسكرية ولم تلتزم بالأوامر بشكل جيد.

في موازاة ذلك، حمّل تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق "فلول النظام السابق" المسؤولية الأساسية، متهمًا إياهم بتنفيذ سلسلة هجمات منسقة في السادس من مارس/آذار استهدفت مواقع أمنية وعسكرية، وأسفرت -وفق تقديرات اللجنة- عن مقتل 238 عنصرًا من الجيش والأمن، بعضهم أُعدم ميدانيًا وهم أسرى أو جرحى.

إعلان

وأوضح التقرير أن الرد العسكري الحكومي الذي تضمن مشاركة قوات نظامية وفصائل محلية، شهد بدوره تجاوزات واسعة النطاق أودت بحياة 1426 شخصًا معظمهم من المدنيين، بينهم 90 امرأة، بعضها وقعت بعد توقف المعارك نتيجة حملات تفتيش وانتقام نفذتها مجموعات غير منضبطة.

وفي هذا السياق، يشير المحامي والمستشار في القانون الجنائي الدولي، محمد الحربلية إلى أن تقرير لجنة التحقيق الدولية وزّع المسؤولية بين مقاتلي النظام السابق وعناصر من فصائل تم دمجها في القوات الحكومية، إضافة إلى أفراد عاديين انخرطوا في العمليات، معتبرًا أن بعض الجرائم ارتُكبت بطريقة ممنهجة وعلى أساس الانتماء الديني، ما يشي بضلوع مسؤولين في مواقع قيادية.

وفي المقابل، يلفت الحربلية في تصريح للجزيرة نت إلى أن التقرير الوطني اعتبر الانتهاكات التي ارتكبها مقاتلون من الفصائل أو مجموعات مستقلة "أفعالًا فردية وغير ممنهجة"، ولا تعكس سياسة معتمدة من جانب الحكومة، وإن كانت قد أسهمت في اتساع دائرة الانتهاكات.

تباين في توصيف الدوافع

بينما يتفق التقريران الأممي والوطني على خطورة ما جرى في الساحل السوري خلال آذار/مارس الماضي، فإنهما يختلفان في توصيف طبيعة تلك الأحداث وأهدافها، إذ لا يقتصر هذا التباين على التفاصيل الميدانية، بل يمتد إلى تفسير الخلفيات السياسية والعسكرية.

تقرير اللجنة الوطنية أشار إلى أن ما جرى كان "محاولة انقلابية" منظمة، موضحًا أن الهجمات التي استهدفت قوات الأمن والحواجز العسكرية، وتدمير ستة مستشفيات، واستهداف المدنيين، وقطع الطرق الرئيسية، جاءت ضمن خطة للسيطرة على أجزاء من الساحل وفصلها عن الدولة.

وتدعم هذه الرواية تصريحات وزير الداخلية السوري أنس خطاب، الذي أعلن في 16 أبريل/نيسان أن الحكومة السورية أنهت “مشروع انقلاب” كان يجري التحضير له على يد مجموعة من ضباط النظام السابق.

في المقابل، لا يتبنى تقرير لجنة التحقيق الأممية هذا التوصيف، ولا يشير إلى وجود محاولة لعزل الساحل، بل يضع ما حدث في سياق أوسع يتعلق بمسار العدالة الانتقالية، مسلطًا الضوء على أن أغلب من كان في الجيش والأمن السابقين ينتمون للطائفة العلوية.

ويوضح رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، أن التقرير الدولي يربط أحداث الساحل بغياب إطار واضح للعدالة الانتقالية بعد سقوط الأسد، ما دفع بعض الأفراد إلى تطبيق القانون بأيديهم، ويتطرق أيضًا إلى وقائع سابقة للأحداث.

ونوه عبد الغني، في حديثه للجزيرة نت، إلى أن التقرير الأممي يتضمن نقطة إيجابية لصالح الحكومة السورية، إذ سمحت للجنة بدخول المنطقة وتسجيل ملاحظاتها وتسهيل مهمتها، بخلاف النظام السابق الذي كان يمنعها من دخول البلاد.

ووفقاً لتحقيق بثته الجزيرة، فإن التمرد في الساحل كان أقرب إلى محاولة انقلاب منظم، إذ قسّم قائد أركان الفرقة الرابعة في جيش النظام السابق، غياث دلا، قواته إلى ثلاث مجموعات، هي "درع الأسد"، و"لواء الجبل"، و"درع الساحل"، وسيطرت هذه القوات على نقاط مفصلية داخل مدن ومراكز محافظتي اللاذقية وطرطوس، قبل أن تتمكن قوات وزارتي الدفاع والداخلية والمجموعات الموالية لهما من إفشال المخطط.

UNITED NATIONS HEADQUARTERS, NEW YORK, NY, UNITED STATES - 2016/02/22: CoI Chair, Paulo Sérgio Pinheiro speaks with the UN press corps. In conjunction with the delivery of one of the Independent International Commission of Inquiry (CoI) on Syria's periodic reports to the United Nations General Assembly, Paulo Sérgio Pinheiro, Chair of the Commission, and Commission member Vitit Muntarbhorn spoke at a press conference at UN Headquarters, outlining the status of human rights concerns at present. (Photo by Albin Lohr-Jones/Pacific Press/LightRocket via Getty Images)
باولو سيرجيو بينيرو رئيس لجنة التحقيق الدولية في أحداث الساحل (غيتي)

التوصيف القانوني للانتهاكات

لا يقتصر الفرق بين استنتاجات اللجنة الوطنية ولجنة التحقيق الأممية على جانب من توصيف ما حدث، بل يمتد إلى التوصيف القانوني للانتهاكات التي شهدها الساحل السوري وبناء على أي إطار تشريعي ينبغي أن تحاكم؟

إعلان

من ناحيتها، اعتمدت اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق في توصيفها على قانون العقوبات السوري وقانون العقوبات العسكري، معتبرة أن ما جرى يندرج تحت جرائم القتل العمد، والتعذيب، والشتم بعبارات طائفية، ومحاولة سلخ جزء من أراضي الدولة، وإثارة النزاعات الطائفية، والسلب، وتخريب الممتلكات، ومخالفة الأوامر العسكرية.

أما لجنة التحقيق الأممية فقد اختارت إطارًا أوسع، وصنّفت الانتهاكات على أنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مستندة إلى أحكام القانون الجنائي الدولي العرفي، نظرًا لمحدودية تطبيق معاهدات الجرائم الدولية في سوريا، وما تتيحه المعايير الدولية من آفاق أوسع للمساءلة أمام هيئات قضائية عالمية.

وفي هذا السياق، يوضح المحامي محمد الحربلية أن هذا التباين يعكس اختلافًا جوهريًا في المرجعيات، إذ يمنح التوصيف الأممي إمكانية ملاحقة المسؤولين على الصعيد الدولي، بينما يقيّد التوصيف الوطني إجراءات المحاسبة بإطار محلي.

وكانت اللجنة الوطنية نفسها أقرت، في مؤتمرها الصحفي الذي عرضت به نتائج التحقيق بضرورة مواءمة القوانين الوطنية مع الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها سوريا، وفقًا لمقتضيات الإعلان الدستوري، وهو ما يتطلب استكمال تشكيل السلطة التشريعية لإجراء الإصلاحات اللازمة.

وفي هذا السياق، شدد تقرير صادر عن المركز الأوروبي لحقوق الإنسان والقانون على أن غياب المواءمة بين القوانين الوطنية السورية والمعايير الدولية للعدالة الجنائية يعيق محاسبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة، ويفتح الباب للإفلات من العقاب.

من جانبه، شدد رئيس اللجنة الوطنية، جمعة العنزي، في مقابلة سابقة مع الجزيرة، على أن عمل اللجنة تم "بكل شفافية" وبلا أي تدخل حكومي، وأنها سلمت أسماء المتورطين إلى النيابة العامة قبل صدور التقرير لفتح تحقيقات رسمية.

الاشتباكات في اللاذقية وطرطوس في الساحل السوري وكالة سانا
لجنة التحقيق الدولية في أحداث الساحل أكدت ارتكاب انتهاكات لكنها نفت أن تكون ممنهجة من طرف الحكومة (سانا)

بين الترحيب وتحمل المسؤولية

لم يقتصر تفاعل الحكومة السورية مع تقرير لجنة التحقيق الأممية على التصريحات البروتوكولية، بل اتخذ شكلًا أقرب إلى تبني جزء كبير من مضمونه وتوصياته، في خطوة رآها مراقبون رسالة سياسية للمجتمع الدولي حول جديتها في التعاون والالتزام بمعايير العدالة.

وفي هذا السياق، أعرب وزير الخارجية والمغتربين أسعد الشيباني عن شكره لرئيس لجنة التحقيق الأممية باولو سيرجيو بينهيور على "جهوده في إعداد التقرير الأخير حول أحداث الساحل"، معتبرًا أن ما ورد فيه "ينسجم مع تقرير لجنة تقصي الحقائق الوطنية المستقلة".

وفي بيان صادر عن الخارجية السورية، أكد الشيباني أن الحكومة "تأخذ على محمل الجد الانتهاكات المزعومة" الواردة في التقرير، كما شدد على التزام بلاده بدمج توصيات اللجنة الدولية ضمن مسار بناء المؤسسات وترسيخ دولة القانون.

من ناحيته، يرى الحقوقي فادي موصلي في حديثه للجزيرة نت أن ترحيب الخارجية السورية بالتقرير الأممي "يوجه رسالة للمجتمع الدولي بأن الحكومة الجديدة ملتزمة بالتعاون مع المنظمات الدولية واحترام القانون الدولي"، ما يعزز – برأيه – شرعيتها على المستوى الخارجي.

وأشار موصلي إلى أن تعزيز الشفافية والسير نحو طريق أفضل على مستوى تحقيق العدالة يتطلب خطوات عملية، مثل نشر المنهجية الحكومية الكاملة، وإعلان أسماء الموقوفين والتهم الموجهة إليهم، وإنشاء آلية شكاوى للضحايا، إضافة إلى إشراك ممثلي الأقليات في مراقبة قطاع الأمن وتدقيق انتساب الأفراد إلى التشكيلات العسكرية والأمنية.

من جهته، يشدد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني أن على الحكومة السورية البناء على هذا التحقيق، وعدم الاكتفاء بنتائج لجنة التحقيق الوطنية، بل الجمع بين التقريرين، إضافة إلى تقارير الشبكة ومنظمات أخرى، بهدف المحاسبة وتعويض الضحايا والاعتراف بما جرى.

إعلان

ودعا إلى حماية المقابر الجماعية، واتخاذ خطوات لإعادة الثقة بين الأهالي، وخاصة في أوساط المجتمع العلوي، ووقف التحريض الطائفي أو الكراهية، مع إشراك القيادات المجتمعية والدينية في جهود المصالحة.

وكان المتحدث باسم لجنة التحقيق الوطنية، ياسر الفرحان، أكد في تصريحات صحفية، أمس الخميس، أن الحكومة بدأت التحقيق مع الموقوفين على خلفية هذه الأحداث، مشددًا على أن مساءلة المتورطين تمثل "أولوية قصوى". وأشار الفرحان إلى أن توصيات اللجنة الوطنية تتفق مع توصيات اللجنة الأممية، وأن الإجراءات الحكومية المتخذة حيال أحداث الساحل تمثل "خطوة غير مسبوقة نحو تحقيق العدالة".

0 تعليق