عاجل

بنما دولة قناة أم قناة دولة؟ الجزيرة نت تبحث عن إجابات - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بنما سيتي- لم تعد قناة بنما مجرد ممر مائي إستراتيجي يربط بين المحيطين الأطلسي والهادي، بل أصبحت رمزا لصراعات أوسع تتقاطع فيها قضايا السيادة والإرث الاستعماري، إلى جانب الهجرة غير النظامية، والنفوذ الصيني المتنامي، وحتى الانتقام السياسي في خطابات الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

فمنذ أن صرح ترامب في خطاب تنصيبه لولاية رئاسية ثانية، يوم 20 يناير/كانون الأول الماضي، بنيته "استعادة قناة بنما" وكرر تصريحات بأن الصين تدير القناة بشكل غير مباشر، أصبحت بنما مجددا في صدارة المشهد الدولي، خاصة مع تهديده الصريح باستخدام الوسائل العسكرية إذا اقتضت الحاجة.

في هذا السياق، زارت الجزيرة نت بنما، للوقوف على خلفيات هذا التصعيد، ورصد المواقف المحلية من التهديدات الأميركية، وفهم حقيقة ما يريده ترامب من هذا البلد الصغير الذي يتوسط القارتين الأميركيتين، ومدى ارتباط مطالبه برغبة حقيقية في السيطرة على القناة أم بمحاولة لتقليص الحضور الصيني في موانئها فقط.

اعلان بوسط الحي القديم في بنما سيتي يظهر حجم وضخامة الوجود الصمي داخل بنما
إعلان بوسط الحي القديم في بنما سيتي يظهر حجم الوجود الصيني وضخامته داخل بنما (الجزيرة)

نفوذ متجذر

بعد نحو 5 ساعات من الطيران من واشنطن نحو العاصمة البنمية بنما سيتي، لا يحتاج الزائر الأميركي لتبديل عملته، فالدولار الأميركي هو العملة الرسمية للدولة. ومن هذه التفاصيل المالية الصغيرة، يتبدى بوضوح عمق النفوذ الأميركي المتجذر في البلاد التي كانت ذات يوم مجرد جزء من كولومبيا.

ففي أواخر القرن التاسع عشر، كانت بنما جزءا من جمهورية كولومبيا الكبرى، إلى أن جاء التدخل الأميركي الأول عام 1846، عبر "معاهدة مالارينو-بيدلاك" التي تعهدت فيها واشنطن بضمان وحدة كولومبيا، بما يشمل منطقة بنما.

وفي ثمانينيات القرن نفسه، فشل الفرنسيون بقيادة فرديناند دي ليسبس في شق قناة تربط المحيطين، بسبب الأمراض والمصاعب الهندسية، وعندما أرادت الولايات المتحدة شراء الشركة الفرنسية واستكمال المشروع، رفضت كولومبيا التصديق على الاتفاق، فاختارت واشنطن دعم حركة انفصالية بنمية أدت إلى إعلان الاستقلال عن كولومبيا في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1903.

إعلان

وفي غضون 6 أيام، سارعت واشنطن للاعتراف بالجمهورية الجديدة، وسرعان ما وقعت معاهدة "هاي-بوناو فاريلا" التي منحت الولايات المتحدة سيطرة كاملة ودائمة على منطقة القناة بعرض 10 أميال، وتحكما واسعا في الشؤون البنمية.

وهكذا، افتتحت القناة في عام 1914، عام اندلاع الحرب العالمية الأولى، وظلت خاضعة للهيمنة الأميركية حتى توقيع معاهدات "توريخوس-كارتر" عام 1977 التي مهدت لتسليم القناة إلى بنما، لكن واشنطن لم تتخلّ عن نفوذها العسكري، فغزت البلاد عام 1989 للإطاحة بالزعيم البنمي مانويل نورييغا، في عملية عرفت باسم "القضية العادلة"، وأسفرت عن مقتل مئات المدنيين وتشريد الآلاف.

قناة توحد البنميين

اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين على استعادة بنما السيطرة الكاملة على قناتها عام 1999، لا تزال القناة تمثل جوهر الكيان الوطني البنمي، فقد لمسنا خلال مقابلاتنا مع عشرات المواطنين شعورا عاما بالاعتزاز والفخر بأن القناة صارت جزءا من الهوية الوطنية، وبأن إدارتها تتم حاليا بكفاءة وشفافية، رغم التحديات.

لكن مع ذلك، يخيم القلق على الشارع البنمي من تهديدات ترامب، خاصة أن البلاد سبق أن شهدت غزوا أميركيا مباشرا، وتدرك نخبها السياسية أن أي تصعيد جديد من واشنطن قد يحمل تداعيات خطيرة.

ويقدّر عدد سكان بنما بنحو 4.5 ملايين نسمة، يعيش حوالي 13% منهم تحت خط الفقر، في بلد يعد من أكثر دول العالم تفاوتا في توزيع الدخل. ويبلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي 18.7 ألف دولار سنويا، وذلك يعكس حالة من الرفاه النسبي بجوار هشاشة اجتماعية.

ويخشى البنميون أن تتحول بلادهم إلى "بديل واقعي" لطموحات ترامب التوسعية، بعدما تعثرت محاولاته في قضايا مثل شراء غرينلاند أو ضم كندا. ومع تزايد اهتمام إدارته الجديدة ببنما، ظهر وزير الخارجية ماركو روبيو في زيارة للبلاد في فبراير/شباط الماضي، تبعه وزير الدفاع بيت هيغسيث في أبريل/نيسان، في ما اعتبر رسالة سياسية حاسمة تؤكد أهمية بنما الجيوسياسية للإدارة الأميركية.

بنما سيتي أصبحت أكثر مدن أميركا الوسطى تطورا بسبب وجود القناة والروابط الأميركية
بنما سيتي أصبحت أكثر مدن أميركا الوسطى تطورا (الجزيرة)

لماذا سلمت واشنطن القناة؟

لعل السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: لماذا سلمت واشنطن قناة بهذه الأهمية إلى البنميين؟ ولماذا قبلت بالتنازل عن رمز من رموز الهيمنة الأميركية في أميركا اللاتينية؟

الجواب يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين أدركت الإدارة الأميركية -كما صرح الرئيس هاري ترومان حينها- ضرورة الانسحاب الطوعي من بنما "قبل أن يطردوا منها". فقد تصاعدت الحركات المناهضة للاستعمار في دول الجنوب، ورفض البنميون وجود قوة أجنبية تقسم بلادهم من دون مقابل.

في عام 1964، اقتحم طلاب بنميون منطقة القناة ورفعوا علم بلادهم، فوقعت اشتباكات دامية قتل فيها 20 متظاهرا و4 جنود أميركيين، في ما صار يعرف "بيوم الشهداء". وتكرست المطالب الشعبية بضرورة استعادة القناة، خاصة بعد الثورة الكوبية عام 1959 وانتشار الحركات اليسارية في القارة.

وفي هذا السياق، صعد الجنرال البنمي اليساري عمر توريخوس إلى السلطة عام 1968، واقترب من كوبا، وسنّ إصلاحات زراعية، وجعل من القناة قضيته الكبرى، ملوحا باستخدام المتفجرات لتدميرها إذا لم تتخلّ عنها واشنطن طوعا.

إعلان

وقد أدرك وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر حساسية الموقف، وأطلق مفاوضات جديدة مع بنما، تمخضت عن معاهدات "توريخوس-كارتر" التي نصت على تسليم القناة في 31 ديسمبر/كانون الأول 1999، وإنشاء سلطة بنمية لإدارتها، بهدف تعظيم الأرباح وتحديث البنية التحتية.

منذ ذلك التاريخ، أصبحت جمهورية بنما محايدة رسميا، ولا تمتلك جيشا، وتحولت العاصمة بنما سيتي إلى مركز مالي وخدمي متطور في أميركا الوسطى، مما عزز من مكانة البلاد في المعادلات الإقليمية والدولية.

ومع عودة ترامب إلى الواجهة وخطابه التصعيدي بشأن القناة، يجد البنميون أنفسهم مجددا في قلب معركة غير متكافئة تتقاطع فيها السيادة الوطنية مع حسابات القوة والهيمنة الأميركية، لتعيد إلى الأذهان فصولا من التاريخ لم تُطوَ بعد.

0 تعليق