Published On 28/8/202528/8/2025
|آخر تحديث: 02:16 (توقيت مكة)آخر تحديث: 02:16 (توقيت مكة)
على امتداد مسيرته الطويلة، لم يرسم الفنان الفلسطيني العالمي سليمان منصور حبيبته فلسطين كخلفية بعيدة، بل جعلها قلب لوحاته وموضوعها، فكانت الأرض عنده وجه الفلاح المتمسك بأرضه، وصورة القدس في عينيه، لا تبتعد عن الثوب التقليدي المطرز بالخيوط، بينما تمثلت العودة لديه في ابتسامة طفلة تضيء العتمة من وهجها.
بهذا الأسلوب المبدع، استطاع هذا الفنان أن يحول ريشته كي تكون سلاحا للذاكرة، ليرسخ صورة القضية الفلسطينية في الوجدان العربي والعالمي.
الفنان الفلسطيني سليمان منصور من مواليد بيرزيت في رام الله عام 1947، ويعد أحد أبرز رموز الفن التشكيلي الفلسطيني. وقد ارتبط اسمه بالريشة التي جسدت حكاية الأرض والإنسان، وصاغ عبر لوحاته هوية بصرية للمقاومة الفلسطينية.
ريشة حملت الوطن
منذ السبعينيات، كانت فكرة الهوية الفلسطينية تشغل الفلسطينيين من شعراء وأدباء وفنانين، في محاولة لبناء رموز وعناصر تربط الإنسان بأرضه وتاريخه، رغم محاولات قوى خارجية لإنكار هذه الهوية. وبرز سليمان منصور بوصفه فنانا حمل هذه القضية في لوحاته، مستندا إلى مصادر فنية متعددة شكلت عمق رؤيته.
واعتمد منصور في فنه التشكيلي على الفنون القديمة، مثل الفن الكنعاني والفرعوني والأشوري، ليستلهم الرموز والخطوط التي تعكس حضارة المنطقة، وعلى الفن الإسلامي والعربي خصوصا الحرف العربي والزخارف، ليربط بين التاريخ والهوية. كما استلهم التراث الفلسطيني من القرية -فكان لنشأته ببيرزيت أثر كبير في ذلك- والمشهد الطبيعي، والفلاحين، والبيوت، والملابس التقليدية، ليجعل اللوحة الفلسطينية متجذرة في الأرض والحياة اليومية.
إضافة لذلك، تأثر منصور بالفن العالمي الذي يحمل رسالة الحرية والمقاومة، فمزج بين الشكل المحلي والبعد العالمي، ليؤكد أن الفن قادر على تقديم رسالة واضحة ومليئة بالمعاني، وأن القضية الفلسطينية يمكن أن تحيا في صورة، وخط، ولون، وفي كل مسحة فرشاة.

رؤية جديدة
في كل معرض للفنان سليمان منصور، كان الجمهور يرى نفسه في اللوحات، سواء في العجوز الذي يتكئ على عصاه، أو في المرأة التي تحرس البيت المملوء بالذاكرة.
إعلان
وما يميز تجربة منصور أنه لم يتوقف عند الشكل الكلاسيكي للرسم، بل جرب في مراحل لاحقة استخدام الطين والقش ومواد الأرض نفسها، وكأنه يذكر بأن الفن الفلسطيني يولد من التراب ويعود إليه.
وعن تجربته في استخدام مواد فنية مختلفة، يقول منصور: "خلال الانتفاضة الأولى (1987-1993) قاطع الفلسطينيون البضائع الإسرائيلية كشكل من أشكال المقاومة. وقاطع الفنانون بدورهم المواد الفنية الإسرائيلية. وشكلت أنا و3 فنانين فلسطينيين -هم فيرا تماري ونبيل عناني وتيسير بركات- مجموعة أطلقنا عليها اسم ’رؤية جديدة‘. اتجه الفنانون نحو بيئتهم واستخدموا المواد مثل الخشب والجلد والطين والحناء والألوان الطبيعية. ساعد هذا النهج الجديد في تطوير الفن الفلسطيني، وشكل حلقة وصل بين الفن الفلسطيني الذي أنتج لعدة عقود بعد النكبة والفن المعاصر الذي ينتجه فنانون فلسطينيون شباب".
مسيرة حافلة
حمل سليمان منصور في ريشته فلسطين، وحول القضايا اليومية والهوية والتراث إلى رموز بصرية صامدة. في كل لوحة، نرى الصراع والأمل، والأرض والإنسان، والتراث والمستقبل، لتصبح أعماله أكثر من مجرد فن، إنها رسائل مصورة تنطق بالهوية والصمود الفلسطيني.
وفي الصفحات التالية، نستعرض بعضا من أبرز أعماله التي جسدت هذه الرؤية.
"جمل المحامل" 1973:لوحة "جمل المحامل" – التي تعد أشهر لوحاته- لم تكن مجرد عمل تشكيلي، بل استطاع من خلالها الفنان أن يجعلها أيقونة تختصر حكاية شعب كامل، يحمل وطنه على كتفيه أينما ذهب.
يصور فيها منصور مسنا فلسطينيا يحمل على ظهره مجموعة من القرى الفلسطينية ومكونات التراث الفلسطيني، بما فيها البيوت والمزارع والآثار، وكأنه جمل، مما يرمز إلى صبر الشعب الفلسطيني وتحمله أثقال النكبة والتهجير.
"طقوس تحت الاحتلال" 1989:
تعد من أبرز أعماله التي تجسد معاناة الشعب الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال، وتعبر عن صمودهم اليومي.
ونجد في هذه اللوحة الزيتية مشهدا رمزيا قويا لجنازة مهيبة تؤمها حشود غفيرة، حاملة نعش شهيد مغطى بالعلم الفلسطيني، وكأنه صليب كبير يذكرنا بقصة "صلب المسيح"، وفق المعتقد المسيحي.

أنجز هذا العمل عام 1976، ويعد من أبرز تجسيداته البصرية لمفهوم "الصمود" الفلسطيني. ويعبر هذا العمل عن مقاومة الشعب الفلسطيني المستمرة في مواجهة الاحتلال، ويجسد الأمل المتجدد رغم التحديات.
يصور العمل 3 شخصيات فلسطينية، كل واحدة تمثل جيلا مختلفا، لمسن يحمل إرثا ثقافيا، وشاب يحمل راية النضال، وامرأة تجسد الأمل والتجدد، في رمزية واضحة لاستمرارية النضال عبر الأجيال.

يعد من أبرز أعماله التي تجسد روح المقاومة والأمل في قلب المعاناة الفلسطينية.
تصور اللوحة مشهدا رمزيا لامرأتين فلسطينيتين ترتديان الزي التقليدي، إحداهما تعزف على الناي في وسط الصحراء القاحلة. وهذا التكوين يعبر عن قدرة الفلسطينيين على خلق الجمال والأمل حتى في أكثر الظروف قسوة.
ونرى من خلال هذا العمل تكريم منصور لفنون المرأة الفلسطينية وإبرازه للعلاقة العميقة بين الإنسان والطبيعة.

لا يمكن قراءة مسيرة الفن التشكيلي الفلسطيني دون التوقف عند تجربة سليمان منصور، الفنان الذي أسهم في تأسيس "رابطة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين" وشارك في معارض عربية وعالمية، ليصبح صوته جزءا من الذاكرة البصرية للشعب الفلسطيني والعالم العربي.
إعلان
أثبت منصور أن الفن ليس مجرد ترف بصري، بل لغة حية تنقل رسائل واضحة ومليئة بالمعاني. في لوحاته، يتحول الجسد المتعب إلى خريطة، والثوب المطرز إلى ذاكرة، والوجه العجوز إلى مرآة لصمود شعب كامل، ليبقى أثره خالدا في وجدان كل من يقرأ فلسطين من خلال الفن.
0 تعليق