Advertisement
منقّح الصورة: كيف أعاد ترتيب البدلة… ودور المرأة
لم يكن أرماني يطارد الصيحات، بل كان يُعيد ترتيبها. منذ السبعينيات خفّف صرامة البدلات، فكّ بطاناتها، ليّن أكتافها، وقرّبها من الجسد من دون استعراض. قال ذات مرّة: "كنتُ أول من حسّن صورة الرجال، وقوّى صورة النساء… سرقتُ من الرجال ما احتاجته النساء: البدلة". جاءت مجموعته النسائية الأولى عام 1975 متناغمة مع روح الحركة النسوية: قصّات ناعمة تُعطي المرأة سلطةً بصرية بلا ضجيج. هكذا وُلدت لغة "البساطة المُتقنة" التي ستصير توقيع الدار لعقود.
قرأ أرماني مبكرًا قوة الصورة. ألبس ريتشارد غير في American Gigolo (1980) فصار الفيلم إعلانًا مُمتدًا لأسلوب "الأناقة بلا جهد"، وتحوّلت السجادة الحمراء إلى فضاءٍ طبيعي لعلامته: زندايا، كيت بلانشيت، جوليا روبرتس وسواهم. صمّم أيضاً أزياء مسرح لليدي غاغا وأزياء لأفلام لاحقة مثل "The Wolf of Wall Street".. لم يكن ذلك "تسويقًا" فحسب؛ كان توسيعًا للمخيلة التي تتغذّى منها الموضة وتغذّيها.

منذ 1975 ظلّت الدار مستقلة في سوقٍ تبتلعها التكتلات. توسّعت العلامة بخطوط مثل Emporio Armani و Armani Exchange والعطور والإكسسوارات والديكور، حتى الفنادق الفاخرة. شراكات تكنولوجية (مع سامسونغ مثلًا) وبثّ عرض أزياء راقية مباشرة على الإنترنت عام 2007 سبق زمنه. هذه الشبكة لم تُبنَ بالمعجزات، بل عبر استمرارية واقعية كما وصفها بول سميث: شركة تقف على قدميها، تقيس خطواتها، وتُدير نجاحها من دون التفريط بهويّتها.
ابتكر أرماني "الجريج"، مزيج الرمادي والبيج، تحيّةً لميلانو "الرمادية" التي أحبّها. كان اللون فلسفة بقدر ما هو اختيار جمالي: اختزال، اقتصاد في الإشارة، وترف. انعكست الفكرة على حياته الشخصية أيضًا.. حياة متحفّظة بلباسٍ شبه موحّد (سترة كشمير زرقاء وسروال فلانيل)، وإدارة صارمة للتفاصيل الصغيرة التي تُراكم هوية كُبرى.

من المدرّج إلى الملعب: الأناقة كقوة ناعمة لإيطاليا
خارج منصّات العرض، لبس الرياضيون توقيعه: من أزياء فرق محترفة وزيّ حاملي العلم الإيطالي في أولمبياد تورينو 2006، إلى شراكات مع سكوديريا فيراري. كان عاشقًا للرياضة ومشجّعًا لإنتر ميلان، ومالكًا لأوليمبيا ميلانو لكرة السلة. بهذا المعنى، لم تكن "أرماني" علامة تجارية فحسب؛ كانت أداةً من أدوات القوة الناعمة الإيطالية.

تبنّى مواقف صارمة حيال معايير صحة العارضات بعد مأساة 2006، وفتح محادثة عالمية حول صورة الجسد في الصناعة. وخلال جائحة كوفيد-19 حوّل مصانع لتأمين ملابس واقية وتبرّع لمستشفيات إيطالية، في تذكيرٍ بأن الأناقة موقفٌ أخلاقي أيضًا. وفي المقابل، لم تخلُ مسيرته من سجالات أو انتقادات وتصريحات جدلية.
حتى وهو يدخل عقده العاشر، ظلّ يُقدّم مجموعات على منصّات باريس وميلانو، وخصّص عرضه في آذار 2025 لبيانٍ عن "انسجام جديد" في عالمٍ مضطرب. حين غاب عن أسبوع ميلانو في حزيران 2025، أدار عن بُعد عرضًا راقيًا في باريس في تموز. أمّا خطة الخلافة فمرسومة على مهل: دائرة قريبة تتقدّم الصفوف، ليو ديل أوركو، شريك الحياة والعمل و"الذراع اليمنى" منذ 1977 ورئيس أزياء الرجال، ومعه سيلفانا أرماني التي تُدير مجموعات النساء، انتقال "عضوي" لا "لحظة انقطاع"، كما قال هو نفسه قبل أيام من رحيله.

من راسل كرو الذي قال إنه "ترك بصمة معروفة في العالم" ورافق اللحظات المفصلية في حياته، إلى جوليا روبرتس التي نعته بـ"صديق حقيقي. أسطورة"، وصولًا إلى رسالة جورجيا ميلوني: "رمز لأفضل ما في إيطاليا". هذه الشهادات لا تُضيف إلى تاريخه بقدر ما تكشف وظيفته العاطفية في حياة من عرفوه: مصمّمٌ يصنع ثيابًا، نعم، لكنّه يصنع معها إحساسًا استثنائيا.
قد يُختصر إرث أرماني بجملة واحدة وردت في نعي داره: "عمل حتى أيامه الأخيرة". ما يبقى اليوم ليس أرشيف صورٍ ولا خزانة نجوم؛ إنما لغة ألبست الرجال والنساء ما يُشبههم، ومستوىً أخلاقيّ ومهنيّ علّم الصناعة أن التمرّد قد يكون هادئًا، وأن القوة قد تكون خافتة.
ويظلّ جورجيو أرماني البوصلةً التي تشير إلى هدف واحد: أن تقول الكثير بالقليل… وأن تجعل الأناقة حقًّا إنسانيًا قبل أن تكون رفاهية.
0 تعليق