لم يعد العالم المعاصر يقيس قوة الدول فقط بمؤشرات الاقتصاد أو القدرات العسكرية، بل بات التعليم التكنولوجي حجر الأساس لأي نهضة صناعية حقيقية. فالدول التي سبقتنا في مجال الصناعة مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، لم تصل إلى مكانتها إلا من خلال ترسيخ منظومة تعليمية تكنولوجية قادرة على إعداد جيل من الكوادر الوسطى والتقنيين المهرة الذين يشكلون العمود الفقري للصناعات الحديثة.
وفي مصر، برزت فكرة الجامعات التكنولوجية كجزء من إستراتيجية قومية شاملة تستهدف إعادة رسم خريطة التعليم العالي، وإعادة التوازن بين المسارات الأكاديمية التقليدية والمسارات التطبيقية. فبينما استحوذت كليات "القمة" لعقود طويلة على اهتمام الأسر المصرية، ظهرت الجامعات التكنولوجية لتكسر هذه القاعدة وتفتح مسارًا جديدًا أمام الشباب.
لكن هذا المسار لا يخلو من العقبات؛ فمن ناحية هناك دعم رسمي وتشريعي وتوسع في إنشاء الجامعات التكنولوجية، ومن ناحية أخرى ما زالت العقلية المجتمعية أسيرة صورة نمطية تقلل من قيمة التعليم التطبيقي مقارنة بالتعليم الأكاديمي النظري. وبين الطموحات الرسمية والتحديات المجتمعية، تطرح الأسئلة الجوهرية نفسها: هل نجحت الجامعات التكنولوجية حتى الآن في إحداث نقلة نوعية؟ ما العوائق التي تعرقل مسيرتها؟ وكيف يمكن ضمان استدامتها كمشروع وطني للنهضة الصناعية؟
للإجابة على هذه الأسئلة، نستعرض رؤية خمسة من أبرز المسؤولين والخبراء في الملف:
الدكتور أحمد الجيوشي الأمين العام للمجلس الأعلى للجامعات التكنولوجية.
الدكتور محمد مرسي الجوهري رئيس جامعة برج العرب التكنولوجية.
الدكتور عادل عبد الغفار المتحدث الرسمي باسم وزارة التعليم العالي.
الدكتور حسام عبد الفتاح أستاذ الهندسة وعميد كلية الهندسة بجامعة القاهرة.
الدكتورة رشا رفاعي عميدة كلية الطب بجامعة حلوان.
كما ننقل تجربة الطالب أحمد علي، أحد دارسي جامعة برج العرب التكنولوجية.
المحور الأول: د. أحمد الجيوشي – السياسات والتشريعات بين الطموح والتحدي
يضع الدكتور أحمد الجيوشي، باعتباره الأمين العام للمجلس الأعلى للجامعات التكنولوجية، الأساس النظري والتشريعي لهذا المشروع. فهو يرى أن مصر قطعت خطوة فارقة بإنشاء الجامعات التكنولوجية، ليس فقط من حيث البنية المؤسسية، وإنما أيضًا من حيث تبني فلسفة تعليمية جديدة تعتمد على الدمج بين التعليم الأكاديمي والتدريب العملي في بيئات صناعية حقيقية.
لكن الجيوشي لا يتجاهل حجم التحديات. فبحسب تصريحه،

هناك ثلاث عقبات أساسية تواجه المشروع:
1. العقلية المجتمعية: ما زالت هناك فجوة بين الخطاب الرسمي الذي يحتفي بالجامعات التكنولوجية، والوعي الشعبي الذي ينظر إليها على أنها "درجة أقل" من الجامعات التقليدية. هذه الفجوة تعرقل قدرة الجامعات التكنولوجية على جذب أفضل الكفاءات الطلابية، ونحن نعمل علي تقليص تلك الفجوة عبر إجراءات عديدة لبناء الثقة.
2. التشريعات والقوانين: رغم وجود قانون خاص بالجامعات التكنولوجية، فإن بعض اللوائح الداخلية تحتاج إلى تطوير لضمان مرونة أكبر في المناهج وآليات التقييم والتعيين، ونحن نعمل مع لجان قطاع المجلس الاعلي للجامعات لتدشين إطار مرجعي موحد لتلك اللوائح. فالتعليم التطبيقي بطبيعته يحتاج إلى سرعة مواكبة للتغيرات الصناعية، وهو ما يتطلب تشريعات مرنة غير جامدة نعمل عليها كما اسلفت.
3. التوصيف الوظيفي للخريجين: يمثل الوصف الوظيفي لمهنة التكنولوجي ضرورة نعمل عليها مع جهات التوظيف والمؤسسات المعنية لضمان الاعتراف المجتمعي والمؤسسي بخريج الجامعات التكنولوجية كفئة مؤهلة لسوق العمل لكي نزيد من القيمة المضافة لهذه الجامعات. وهنا يبرز ايضا دور النقابات المهنية في إدماج هؤلاء الخريجين ضمن سوق العمل بصورة عادلة ومنصفة.
رؤية الجيوشي تكشف بوضوح أن الجامعات التكنولوجية ليست مجرد مبانٍ أو مناهج، بل هي معركة ثقافية وتشريعية في المقام الأول. ونحن نعمل علي تغيير الثقافة المجتمعية عبر الإعلام والوعي، وتطوير التشريعات بما يضمن مرونة أكبر، لكي لا تظل هذه الجامعات محصورة في دور تجريبي محدود. كما أن مسألة "التوصيف الوظيفي" تبدو حاسمة لكي نضمن اعتراف سوق العمل بمخرجات الجامعات التكنولوجية، وهو ما نجتهد لانجازه في الفترة القادمة.
المحور الثاني: د. محمد مرسي الجوهري – الأرقام والتجربة الميدانية
من موقعه كرئيس لجامعة برج العرب التكنولوجية، يتحدث الدكتور محمد مرسي الجوهري بلغة الأرقام. فهو يؤكد أن إقبال الطلاب على الجامعات التكنولوجية يتزايد عامًا بعد عام، مشيرًا إلى أن جامعة برج العرب وحدها استقبلت مئات الطلاب خلال العام الجامعي الأخير، مع نسب نجاح مرتفعة وإقبال متنامٍ على برامجها التطبيقية.
ويرى الجوهري أن هذا الإقبال يعكس بداية تحول حقيقي في عقلية الطلاب وأسرهم. فالطلاب الذين كانوا يتجهون سابقًا إلى التعليم الفني التقليدي، باتوا يجدون في الجامعات التكنولوجية فرصة لاستكمال مسار أكاديمي تطبيقي يمنحهم شهادة جامعية معترف بها، وفي الوقت ذاته يضمن لهم فرصًا أفضل في سوق العمل.

كما يشير إلى أن جامعة برج العرب أصبحت نموذجًا رائدًا للتجربة، حيث تقدم برامج متخصصة في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات، والميكاترونكس، والطاقة الجديدة والمتجددة، وهي مجالات ترتبط مباشرة بالخطط القومية للتنمية الصناعية.
رغم أن الأرقام التي يقدمها الجوهري تعكس نجاحًا نسبيًا، إلا أن السؤال الأعمق يتعلق بمدى استدامة هذا النجاح. فالإقبال المتزايد قد يكون ناتجًا عن "جاذبية جديدة" أكثر منه اقتناعًا راسخًا. ما لم يترافق هذا الإقبال مع قصص نجاح واقعية لخريجين يجدون وظائف مناسبة ويحققون إنجازات مهنية، فإن الحماس قد يتراجع مع الوقت.
إضافة إلى ذلك، يظل التحدي الأكبر في قدرة الجامعات التكنولوجية على توفير بنية تحتية متطورة قادرة على استيعاب هذا التوسع، خصوصًا أن التعليم التطبيقي يتطلب معامل متقدمة وتدريبًا عمليًا مكلفًا.
المحور الثالث: د. عادل عبد الغفار – الصورة الذهنية والاستثمار الخاص
يضع الدكتور عادل عبد الغفار، المتحدث الرسمي باسم وزارة التعليم العالي، يده على جانب آخر من القضية: الثقافة المجتمعية والاستثمار الخاص. فهو يرى أن مصر تشهد تحولًا تدريجيًا في النظرة إلى التعليم التكنولوجي، وأن الأسر المصرية باتت أكثر استعدادًا لتقبل فكرة التحاق أبنائها بهذه الجامعات، خصوصًا مع وضوح الجدوى الاقتصادية لها.
ويضيف أن مشاركة القطاع الخاص في تأسيس وإدارة بعض الجامعات التكنولوجية تعد مؤشرًا إيجابيًا، لأنها تؤكد أن المشروع لم يعد حكرًا على الدولة وحدها، بل أصبح جزءًا من منظومة شراكة أوسع بين الدولة والقطاع الخاص.
كما يشير إلى أن خطط الوزارة تستهدف التوسع الجغرافي في إنشاء الجامعات التكنولوجية حتي يكون هناك جامعة داخل كل محافظة لربطها بالمناطق الصناعية، بحيث تتحول إلى مراكز تدريب وإمداد للكوادر الفنية المطلوبة.

رؤية عبد الغفار تسلط الضوء على نقطة مهمة:
قال الدكتور عادل عبدالغفار، المستشار الإعلامي والمتحدث الرسمي باسم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، إن المجتمع المصري يشهد تحولًا إيجابيًا واضحًا في ثقافته تجاه الجامعات التكنولوجية، مشيرًا إلى أن هذا التغيير يتضح من خلال عدة مؤشرات عملية مهمة.
أوضح عبدالغفار أن أول هذه المؤشرات يتمثل في تزايد أعداد الطلاب المقبلين على الالتحاق بالجامعات التكنولوجية سنويًا، وهو ما يعكس ثقة متزايدة في جدوى هذا النوع من التعليم ودوره في المستقبل المهني.
وأشار إلى أن المؤشر الثاني يتمثل في التوسع المستمر بعدد الجامعات التكنولوجية، حيث وصل العدد حتى الآن إلى 14 جامعة على مستوى الجمهورية، مما يتيح مزيدًا من الفرص التعليمية للطلاب.
وأضاف أن المؤشر الثالث يرتبط بخطة الدولة الطموحة لإنشاء جامعة تكنولوجية في كل محافظة على مستوى الجمهورية، بما يضمن وصول هذا النوع من التعليم لجميع الطلاب في مختلف المناطق.
وأوضح عبدالغفار أن المؤشر الرابع يظهر من خلال إنشاء الجامعات التكنولوجية في المناطق الصناعية، مما يوفر للطلاب فرص تدريب عملي حقيقية داخل بيئات إنتاجية، ويساعدهم على اكتساب مهارات مهنية متقدمة.
وأشار إلى أن دخول القطاع الخاص في مجال الاستثمار يمثل المؤشر الخامس، حيث تم بالفعل إنشاء جامعتين تكنولوجيتين من خلال استثمارات خاصة، إلى جانب وجود طلبات جديدة من مستثمرين آخرين، مما يعكس ثقة كبيرة في مستقبل هذا القطاع الحيوي.
وتابع أن المؤشر السادس يتمثل في إعداد لوائح دراسية جديدة بالتعاون بين الأكاديميين والقطاع الصناعي، إذ تساهم بعض المصانع في صياغة هذه اللوائح بما يضمن مواءمة المناهج الدراسية مع احتياجات سوق العمل، ويعزز التكامل بين التعليم النظري والتدريب العملي.
واختتم عبدالغفار تصريحاته بالتأكيد على أن هذه المؤشرات مجتمعة تمثل دليلًا قويًا على التحول الإيجابي في وعي المجتمع والطلاب تجاه الجامعات التكنولوجية.
المحور الرابع: د. حسام عبد الفتاح – نقد ثقافة "كليات القمة"
أما الدكتور حسام عبد الفتاح، أستاذ الهندسة وعميد كلية الهندسة بجامعة القاهرة، فيطرح رؤية نقدية صريحة لثقافة المجتمع. فهو يرى أن مصر لن تحقق نهضة صناعية حقيقية ما دامت العقلية المجتمعية أسيرة لفكرة "كليات القمة" التي تحصر النجاح في الطب والهندسة والصيدلة.

ويؤكد عبد الفتاح أن التعليم التكنولوجي يجب أن يُنظر إليه كمسار متساوٍ في القيمة مع التعليم الأكاديمي، لا كخيار بديل للطلاب الذين لم يحصلوا على مجموع مرتفع. ويضيف أن العالم المتقدم يبني قوته الصناعية على الكوادر الوسطى والفنيين المؤهلين، وهو ما ينقصنا بشدة.
رؤية عبد الفتاح تضع الأصبع على الجرح الحقيقي: أزمة الثقافة التعليمية في مصر. فمهما توسعت الدولة في إنشاء الجامعات التكنولوجية، ومهما وفرت من إمكانات، فإن المشروع لن ينجح ما لم يتغير وعي المجتمع.
الخطورة هنا أن استمرار هذه الثقافة يعيد إنتاج البطالة المقنعة، حيث يتكدس آلاف الخريجين من كليات تقليدية لا يحتاجها سوق العمل، بينما تعاني المصانع والشركات من نقص الكفاءات الفنية. ومن ثم، فإن التغيير المطلوب ليس فقط في السياسات التعليمية، بل أيضًا في القيم الاجتماعية التي تحدد نظرة الأسرة لمستقبل أبنائها.
المحور الخامس: د. رشا رفاعي – البعد الثقافي والإعلامي
تؤكد الدكتورة رشا رفاعي، عميدة كلية الطب بجامعة حلوان، أن العامل المجتمعي والثقافي هو السبب الأول في استمرار توجه الطلاب وأولياء الأمور إلى كليات القمة مقابل العزوف عن الجامعات التكنولوجية. تقول:
"نحن أمام ثقافة مترسخة لا تقتصر على مصر فقط، بل موجودة عالميًا، وهي أن كليات مثل الطب والهندسة تمثل رمز المكانة الاجتماعية والنجاح. هذه الصورة تجعل كثيرًا من أولياء الأمور يصرون على دفع أبنائهم لهذه الكليات حتى لو لم تكن رغبتهم الحقيقية، باعتبار أن المستقبل مضمون لهم بعد التخرج."

وتضيف أن غياب الوعي بدور خريجي الجامعات التكنولوجية يزيد المشكلة تعقيدًا، موضحة أن الإعلام عليه دور محوري في التعريف بحديثة هذه الكليات وطبيعة سوق العمل المتاح أمام خريجيها. وتتابع:
"المجتمع بحاجة لرؤية نماذج ناجحة ومشهورة من خريجي الجامعات التكنولوجية، مثلما اعتاد رؤية رموز الطب والهندسة. من دون هذه النماذج سيظل التردد قائمًا، خصوصًا مع ضعف الحملات الترويجية وغياب الوضوح أمام الطالب وولي الأمر عن مستقبل هذه الشهادات، وهل هي معترف بها دوليًا وتفتح باب الدراسات العليا أم لا."
رؤية د. رشا تكمل ما طرحه الخبراء الآخرون، وتضع التركيز على أن المعركة الإعلامية والثقافية لا تقل أهمية عن المعركة التشريعية والاقتصادية.
المحور السادس: أحمد علي – صوت الطلاب وتجربة الواقع
من داخل جامعة برج العرب التكنولوجية، يروي الطالب أحمد علي تجربته قائلًا:
"أنا اخترت الجامعة التكنولوجية عن اقتناع. درست تخصص الميكاترونكس، ووجدت أن المناهج مرتبطة مباشرة بسوق العمل. عندنا معامل حديثة وتدريبات في المصانع، وهذا يجعلنا نشعر أننا نتعلم شيئًا حقيقيًا سنستخدمه في المستقبل."
ويضيف أحمد أن كثيرًا من زملائه فوجئوا بجودة البرامج بعد الالتحاق، وأن خوف أولياء الأمور بدأ يتلاشى تدريجيًا مع وضوح الصورة. ويقول:
"المجتمع محتاج يشوف قصص نجاح فعلية. لما يتخرج أول دفعات ويلاقوا وظائف كويسة أو يبدأوا مشاريع خاصة، وقتها الناس كلها هتعرف أن الجامعات التكنولوجية مش أقل من أي كلية قمة."
عند جمع الرؤى الست، نجد أن الجامعات التكنولوجية في مصر تقف عند مفترق طرق. فهي من ناحية تحظى بدعم رسمي وتشريعي واستثمارات متزايدة، ومن ناحية أخرى تواجه تحديات ثقافية ومؤسسية قد تعرقل مسيرتها.
رؤية د. أحمد الجيوشي تكشف أن المعركة الأساسية هي معركة تشريعات واعتراف وظيفي.
أرقام د. محمد مرسي الجوهري تعكس نجاحًا أوليًا، لكن استدامته مرهونة بتحقيق قصص نجاح فعلية.
طرح د. عادل عبد الغفار يبرز أهمية الاستثمار والربط بالصناعة، مع تساؤلات العدالة الاجتماعية.
نقد د. حسام عبد الفتاح يذكرنا أن كل هذه الجهود قد تنهار إذا لم يتغير وعي المجتمع.
مداخلة د. رشا رفاعي تبرز أن الإعلام والثقافة لهما الكلمة الفصل في حسم المعركة.
شهادة الطالب أحمد علي تمنح التجربة بعدًا واقعيًا من قلب الجامعات التكنولوجية.
في النهاية، يمكن القول إن الجامعات التكنولوجية ليست مجرد مشروع تعليمي، بل هي مشروع وطني للنهضة الصناعية. نجاحه يتطلب تضافر الجهود بين الدولة والمجتمع والقطاع الخاص والإعلام. والأهم من ذلك، يتطلب ثورة في العقلية المصرية التي ما زالت تحصر النجاح في كليات بعينها. فإذا نجحت مصر في كسر هذه "العقدة"، فإن الجامعات التكنولوجية قد تتحول بالفعل إلى قاطرة للتنمية، تضعنا على طريق الدول الصناعية الكبرى.
0 تعليق