محمد عبد العظيم
Published On 7/9/20257/9/2025
|آخر تحديث: 21:42 (توقيت مكة)آخر تحديث: 21:42 (توقيت مكة)
في أزمنة الحروب والصراعات، غالبا ما يُنظر إلى التعليم باعتباره رفاهية يمكن تأجيلها أمام أولوية البقاء، غير أن التجارب العالمية تثبت أن التعليم يظلّ حاجة أساسية لا تقل أهمية عن الغذاء والدواء. فهو وسيلة لحماية الأطفال نفسيا واجتماعيا، وتجهيزهم بأدوات الصمود في وجه القسوة.
وما يجري في غزة اليوم يقدم مثالا صارخا، إذ انقطع نحو 625 ألف طفل عن الدراسة بفعل تدمير المدارس أو تحويلها إلى ملاجئ، لتصبح أكثر من 90% من مدارس القطاع غير صالحة للتعليم بحسب تقارير اليونيسيف. ورغم حجم الدمار، ما يزال الطلاب والمعلمون يبتكرون بدائل -من الخيام إلى التعلم الذاتي- ليؤكدوا أن القصف قد يهدم الجدران لكنه لا يلغي الحق في التعلم.

سيناريوهات الابتكار في قلب الأزمة
التجارب عبر العالم تكشف أن "الصمود التعليمي" في أوقات الحرب ليس حكرا على منطقة بعينها، بل ظاهرة عالمية تقتضي حلولا مبتكرة. فالخراب النفسي والمادي يجعل من استمرار التعليم مهمة شاقة، لكنه في الوقت ذاته يكشف قدرة المجتمعات على التكيف وإيجاد بدائل.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listفي ما يلي نستعرض مجموعة من السيناريوهات المتنوعة والبسيطة والفعالة، والتي تحمل رسالة واحدة: لا يجب أن تُسرق الطفولة مرتين، مرة بسبب الحرب، ومرة بسبب الجهل.
التعليم عبر الراديو: في مناطق الصراع حيث تغيب الكهرباء والإنترنت، برز الراديو وسيلة مقاومة. فقد اعتمدت دول مثل تشاد وجنوب السودان برامج إذاعية تبث دروسا يومية تغطي المهارات الأساسية. فالراديو ميزته تكمن في سهولة الوصول وتكلفته المتدنية. وفي ظل القصف، يصبح صوت المذياع خيطا يربط الطالب بالعالم الخارجي ويعيد إليه الإحساس بالاستمرارية. التعلم الرقمي عبر الإنترنت: في فلسطين وأوكرانيا، ساعدت المنصات الرقمية وغرف الدروس الافتراضية الطلاب على متابعة المناهج رغم الإغلاقات والقصف. التطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي وفرت فرصا للتعلم وللدعم النفسي والاجتماعي في آن واحد. وفي البيئات ذات الاتصال المحدود، لجأت الحكومات إلى توزيع محتويات محمّلة مسبقا على أجهزة تعليمية غير متصلة بالإنترنت، لتجاوز الفجوة الرقمية وتوسيع دائرة المستفيدين. التعليم المجتمعي: في المخيمات والملاجئ، تتحول مساحات مؤقتة إلى فصول بديلة. ففي فلسطين وسوريا، ظهر نموذج "التعليم الشعبي"، حيث يشارك الأهالي والمعلمون والطلاب أنفسهم في صياغة تجربة تعليمية تعويضية. ولا يحفظ هذا النموذج حق التعلم فحسب، بل يعزز التكافل الاجتماعي ويحوّل التعليم إلى فعل مقاومة جماعي. المدارس المتنقلة: عند النازحين أو في البيئات الرعوية، أثبتت المدارس المتنقلة فاعليتها. فهي تنتقل بالمعلمين والموارد إلى أماكن تجمع الأطفال، وتسمح بتجربة التعليم المتعدد المستويات داخل فصل واحد. تجارب مثل فيتنام أظهرت نجاح هذا النموذج في توفير التعليم رغم التشتت الجغرافي. التعلم الذاتي: حين يغيب المعلم، تصبح الكتب التفاعلية أداة أساسية. في سوريا طُورت كتب للتعلم الذاتي تمكّن الأطفال من الاستمرار في الدراسة من بيوتهم أو ملاجئهم. رغم بساطتها، فإنها تغرس مهارات الاستقلالية والانضباط، وتشكل جسرا يقي من الانقطاع التام عن التعليم. التعليم العملي: لا تلغي الحرب الحاجة إلى القراءة والكتابة فحسب، بل تفرض أولويات حياتية جديدة. لذا برزت مبادرات تدمج المهارات العملية في المناهج، مثل إدارة الموارد الغذائية والمائية والطاقة. هذه المهارات تمنح الأطفال قدرة على التكيف مع واقع قاسٍ، وتزودهم بأدوات ملموسة للبقاء.
التعليم.. شفاءٌ وبناء وأمل
لا يقتصر دور التعليم في زمن الحرب على المعرفة الأكاديمية، بل يمتد ليكون ملاذا نفسيا. فاستخدام الأغاني والدراما والرقص والرواية الشعبية كوسائل تعليمية ساعد في رفع الروح المعنوية وتقليل آثار الصدمات. ففي اللحظة التي يغني فيها الأطفال أغنية أو يمثلون مسرحية، يتحول التعليم إلى مساحة للراحة والشفاء.
غزة.. المقاومة بالتعلم
يجسد الوضع في غزة اليوم أشد سيناريوهات انقطاع التعليم قسوة، فللعام الثاني على التوالي يعيش الأطفال محرومين من عام دراسي كامل، بعد أن دُمرت مدارسهم أو تحولت إلى ملاجئ. ومع ذلك، يبتكر الأهالي والمعلمون مساحات بديلة: من خيام صغيرة، وحلقات دراسية داخل البيوت، أو مبادرات رقمية رغم انقطاع الكهرباء المتكرر. هنا يصبح التعليم فعل بقاء وأداة للمقاومة وبناء الأمل.
إعلان
التعلم تحت القصف شهادة على أن أطفال الحروب ليسوا ضحايا سلبيين بل هم صانعون لمستقبلهم، إذ يتحول التعليم إلى وسيلة للبقاء والتكيف وبناء الحلم. من الراديو إلى الخيام، ومن الفصول الافتراضية إلى المدارس المتنقلة، تتجلى قدرة الإنسان على الابتكار حين يتعلق الأمر بإرادة الحياة. وفي النهاية، يظل التعليم الرد الأقوى على آلة الحرب، فالدبابة قد تدمر المباني، لكنها تعجز عن هدم عقل متعلم.
0 تعليق