في عالم يتسابق فيه عمالقة التكنولوجيا، مثل "غوغل" و "مايكروسوفت"، لبناء نماذج لغوية كبيرة تعتمد على تجميع البيانات السحابية، تختار "آبل" مسارا مختلفا جذريا.
ونطلاقا من شعار "الخصوصية حق أساسي من حقوق المستخدمين"، تتبنى "آبل" فلسفة تحافظ على هذه الخصوصية كأولوية قصوى، حيث تعيد تعريف علاقة المستخدم بالتكنولوجيا في عصر الذكاء الاصطناعي.
وتتمتع "آبل" بأفضل سمعة في حماية خصوصية المستخدم من بين شركات الذكاء الاصطناعي، حيث دأبت الشركات المنافسة الأخرى على استخدام بيانات المستخدمين منذ سنوات لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.
ومن الصعب التقليل من أهمية البيانات في بناء نماذج الذكاء الاصطناعي، ولكن "آبل" تراهن على قدرتها على بناء ذكاء اصطناعي دون التضحية بالخصوصية.

البيانات التركيبية مقابل البيانات الحقيقية
يلجأ عمالقة التكنولوجيا إلى تدريب الذكاء الاصطناعي باستخدام بيانات المستخدم بهدف تحسين الموثوقية والدقة، ولكن "آبل" تتبنى إستراتيجية تحافظ على الخصوصية، متحدية بذلك النهج السحابي السائد لدى "غوغل" و"مايكروسوفت".
ولطالما افتخرت "آبل" بتركيزها على الخصوصية أكثر من منافسيها في مجال التكنولوجيا، ونتيجة لذلك، فإن تدريب الذكاء الاصطناعي من خلال بيانات المستخدم يضعها في موقف صعب.
ويأتي هذا الالتزام بثمن، إذ تمتلك "آبل" معلومات أقل جودة لتدريب "آبل إنتلجنس" (Apple Intelligence) بسبب عدم جمع البيانات، مما ترك الشركة في مأزق.
وظهرت إحدى عواقب هذا التحدي في شهر مارس/آذار عندما أجلت الشركة تحديث مساعد الذكاء الاصطناعي "سيري" (Siri) في خطوة نادرة لشركة لا تؤجل إصدار منتج بعد الإعلان عنه.
وفي شهر يناير/كانون الثاني عطلت "آبل" مؤقتا ملخصات الذكاء الاصطناعي لإشعارات الأخبار، وذلك عقب انتقادات من وسائل إعلامية لمخاوف من أن الذكاء الاصطناعي ينتج أخطاء واقعية.
إعلان
وتسعى الشركة إلى تحسين "آبل إنتلجنس" دون المساس بخصوصية مستخدميها، ونتيجة لذلك لجأت إلى البيانات التركيبية، وهي بيانات وهمية مصممة من أجل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي تحاكي البيانات الحقيقية.
وعلى سبيل المثال، ينشئ الذكاء الاصطناعي رسالة بريد إلكتروني تركيبية مشابهة في موضوعها وأسلوبها لرسالة حقيقية، وذلك بهدف تعليمه كيفية تلخيص تلك الرسالة.
حل "آبل".. الخصوصية التفاضلية
تعتمد الشركة على البيانات التركيبية لتدريب الذكاء الاصطناعي، ولكن هذا النهج محدود لأن النماذج المدربة بهذه الطريقة تواجه صعوبة في فهم الاتجاهات.
كما تعاني البيانات التركيبية من عدم قدرتها على محاكاة اللمسة الإنسانية المميزة الموجودة في المحتوى الحقيقي.
وقد دفع هذا القيد "آبل" إلى اعتماد نهج مختلف، يُعرف باسم الخصوصية التفاضلية، الذي يجمع البيانات التركيبية مع البيانات الحقيقية.
وشرعت الشركة في تنفيذ خطة جديدة تعتمد على تحليل بيانات المستخدم ضمن الجهاز، وذلك من أجل جعل "آبل إنتلجنس" أكثر ذكاء.
ومن خلال دمج بيانات نتائجك مع هذه البيانات التركيبية، يصبح بإمكان "آبل" بناء نماذج أفضل وحماية معلومات المستخدم، وهو ما يساعدها أيضا على مواكبة منافسيها في مجال الذكاء الاصطناعي.
وبدلا من جمع جميع معلوماتك وتحميلها على السحابة، فإن "آبل" تسعى إلى تحليل معلوماتك ضمن الجهاز، وحمايتها باستخدام الخصوصية التفاضلية، ومشاركة البيانات التي تستقبلها بشكل لا يرتبط بك مباشرة.
وعلى سبيل المثال، إذا كانت "آبل" تريد تعليم الذكاء الاصطناعي كيفية تلخيص رسالة بريد إلكتروني، فإنها تبدأ بإنشاء عدد كبير من رسائل البريد الإلكتروني التركيبية حول مواضيع مختلفة.
وتحول "آبل" كل رسالة إلى ما تطلق عليه التضمين، وهو ملخص رقمي يسجل سمات تشمل الموضوع والطول.
وترسل هذه التضمينات إلى الأجهزة المُشتركة فقط، ويختار كل جهاز عينة صغيرة من رسائل البريد الإلكتروني للمستخدم وينشئ تضميناته، مع تحديد أي التضمينات التركيبية تطابق الموضوع والخصائص الأخرى لرسائل البريد الإلكتروني للمستخدم.
ومن خلال نهج الخصوصية التفاضلية، تحدد "آبل" أي التضمينات التركيبية كانت الأكثر تشابها وتعالج هذه العينات لتحسين البيانات أو البدء في استخدامها لتدريب الذكاء الاصطناعي.
وتساعد هذه الرؤى الشركة في تحسين الميزات المتعلقة بالنصوص في "آبل إنتلجنس"، مثل الملخصات في الإشعارات، والقدرة على تجميع الأفكار في أدوات الكتابة، وتلخيص رسائل المستخدمين.
وعند إنشاء بيانات تركيبية، تهدف "آبل" إلى إنتاج جمل أو رسائل بريد إلكتروني تركيبية متشابهة في موضوعها أو أسلوبها مع البيانات الحقيقية بما يكفي لتحسين نماذجها للتلخيص، ولكن دون أن تجمع الشركة رسائل البريد الإلكتروني من الجهاز.

كيف تحمي "آبل" خصوصيتك؟
إذا كنت تتساءل عن كيفية حماية هذه العملية لخصوصيتك، فإن خيار مشاركة تحليلات الجهاز معطل افتراضيا، مما يعني أن تدريب البيانات يقتصر على من اختاروا الاشتراك فقط.
إعلان
وتستطيع رؤية الخيار، والاشتراك فيه، أو إلغاء الاشتراك عبر أي جهاز من "آبل" من خلال إعدادات التحليلات والتحسينات.
ويتوفر الخيار مع نظامي "آي أو إس" (iOS) و "ماك أو إس" (MacOS). وعلاوة على ذلك، لا تنقل بيانات رسائل البريد الإلكتروني المستخدمة من الجهاز، ولا تشارك مع "آبل".
ويرسِل الجهاز المشارك في التحليلات إشارة إلى الشركة تشير إلى رسائل البريد الإلكتروني التركيبية الأقرب إلى رسائل البريد الإلكتروني الفعلية للمستخدم، دون الإشارة إلى عنوان "بروتوكول الإنترنت" (IP) أو حساب "آبل" أو أي بيانات أخرى مرتبطة بالمستخدم.
وتسعى "آبل" إلى ضمان أن المعلومات التي تستخدمها لتدريب الذكاء الاصطناعي ليست معلومات غير موثوقة، مما يزيد من احتمالية عدم وجود إجابات أو ردود غير موثوقة.
وبدأت "آبل" باستخدام نهج الخصوصية التفاضلية في ميزة "جينموجي" (Genmoji)، التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لإنشاء رموز تعبيرية مخصصة بناء على أوصاف المستخدمين.
وفي هذه الحالة، استطاعت الشركة تحديد المطالبات الشائعة وأنماط المطالبات، مع توفير ضمان بعدم اكتشاف المطالبات الفريدة أو النادرة وعدم إمكانية ربط مطالبات محددة بمستخدمين فرديين.
الخطط المستقبلية
تخطط "آبل" في المستقبل لتوسيع نطاق استخدامها لنهج الخصوصية التفاضلية ليشمل ميزات أخرى للذكاء الاصطناعي.
وبناء على سنوات خبرتها الطويلة في تقنيات، مثل نهج الخصوصية التفاضلية، بالإضافة إلى تقنيات جديدة، مثل توليد البيانات التركيبية، تستطيع الشركة تحسين ميزات "آبل إنتلجنس" مع حماية خصوصية المستخدمين الذين يختارون برنامج تحليلات الأجهزة.
وتتيح هذه التقنيات للشركة فهم الاتجاهات العامة دون معرفة أي معلومات عن أي شخص، مثل المطالبات التي يستخدمها أو محتوى رسائل البريد الإلكتروني.
وبالنسبة للمحتوى المتاح للجمهور على الإنترنت، فإنها تستخدم مرشحات لإزالة المعلومات الشخصية، مثل أرقام الضمان الاجتماعي وبطاقات الائتمان.
ولا شك في أن هذا الجهد الأوسع موجه نحو شيء أكثر أهمية من "جينموجي"، حيث تدرب "آبل" أجهزتها على فهم الحالة المزاجية والسياق، وهو ما يشبه، عند دمجه مع كل ما تعرفه أجهزتك عنك، إنشاء توأم رقمي.
وبينما يبدو أن الاستخدام يركز حاليا على أمور بسيطة، ولكن من الواضح أنه قد يساعد في مجالات أخرى أكثر أهمية، مثل الصحة.
ختاما، تثبت "آبل" أن الابتكار يجب ألا يأتي على حساب الخصوصية في سباق الذكاء الاصطناعي. وبينما تقدم "غوغل" و "مايكروسوفت" إمكانات قوية من خلال السحابة، فإن "آبل" تقدم بديلا يحترم بيانات المستخدم.
ولا يخلو هذا النهج من التحديات، ولكنه يعكس رؤية أوسع لشركة تريد منح المستخدم أدوات ذكية تساعده في حياته دون أن يصبح هو المنتج. وقد يكون نهج "آبل" المحافظ هو الثورة التي يحتاجها المستخدمون لمواصلة الثقة بالتكنولوجيا في عالم أصبحت فيه البيانات العملة الجديدة.
0 تعليق