سوق المناخليّة.. حكاية حيّ يتنفس التاريخ - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يحمل سوق المناخلية في دمشق القديمة اسمًا يقطر من عمق الحِرفة وروح الأرض معًا، اسمًا تشعر أنّه خرج من رحم الأزقة الضيّقة التي تفيض بروائح الخشب المبتلّ وصوت المطارق وهي تعزف لحن الدقّة والإتقان.

كان هذا السوق في بداياته موئلً لصناعة المناخل والغرابيل، أدواتٍ بسيطة في ظاهرها، غير أنّها كانت تشكّل العمود الفقري لحياةٍ تمشي على إيقاع الزراعة والتجارة، وتستمدّ قوتها من بساطة الاحتياجات وعمق المعاني.

اقرأ أيضا

list of 2 items end of list

كلّ منخل وُلد هنا حمل في خيوطه حكاية يد اعتادت الصبر ودقّة العمل، وقطعة من ذاكرة الأجداد الذين صاغوا الحِرف كما تُصاغ القصائد، متأنّية وموزونة ومتقنة.

ذلك الاسم لم يكن مجرّد وسمٍ لمكان، بل عنوانًا لزمنٍ كانت فيه الأشياء تُصنع بلا عجلة، ويُسكب فيها من روح الحرفيّ أكثر مما يُسكب من مواده الخام، زمن كانت فيه الصنعة امتدادًا لكرامة الإنسان واعتزازه بعمله، وكانت المناخل والغرابيل تغادر السوق نحو البيوت الدمشقية كما لو أنّها جزءٌ من ترابها ونبضها، أدواتٌ تنخل الحبّ وتفصل الطيب عن الغثّ، وتُعلّم أصحابها أنّ الإتقان هو الوجه الأجمل للوفاء.

ومع انسياب الزمن تغيّرت ملامح السوق، وتمدّدت أنشطته في مسارٍ هادئ ولكنه متين، فبدأت محالّ صغيرة على جانبيه تعرض موادّ البناء، وأدوات الحرف التقليدية، وخردوات الحياة اليومية، حتى تحوّل السوق إلى خزان حيّ لذاكرة المهن الدمشقية، فضاء مفتوح تختلط فيه الحكايات مع أصوات البيع، وتهتز فيه ذاكرة المكان كلّما مرّت يدٌ فوق خشبٍ عتيق أو علبة صدئة تحمل عبق سنوات مضت.

هذا الامتداد لم يكن توسّعًا ماديًا فحسب، بل كان انعكاسًا طبيعيًّا لتحوّلات المدينة نفسها، إذ ظلّ السوق مرآة لدمشق وهي تتبدّل، يحتفظ بروحه القديمة في قلب كلّ تغيير، لقد كان كائنًا حضريًّا حيًّا يتنفس مع أهل الحارة، يلتقط أنفاسهم ويعيدها في شكل تجارةٍ وذاكرةٍ متجددة، حتى غدا أشبه بمستودعٍ مفتوح يختزن تاريخ الحِرف الدمشقية ويصدّره للمدينة كلّها.

إعلان

بين الدكاكين المتلاصقة تلتقي الأزمنة كما تلتقي طرق القوافل القديمة، ومن يقف في السوق الآن يسمع وقع أقدام الماضي في حجارة الأرض، ويشمّ في هواء الحارات رائحة الخشب القديم ممزوجة برائحة الوقت، وفي هذا المكان تتحوّل الحِرفة إلى لغة، والصوت إلى ذاكرة، والزمن إلى حكاية تتوالى فصولها جيلا بعد جيل.

إنّ سوق المناخلية ليس مجرّد شارع ضيّق تزدحم على جانبيه المحال، بل نصّ معماريّ مفتوح تتداخل فيه الجغرافيا مع التاريخ، وتنعكس فيه فلسفة دمشق في صون روحها رغم تقلبات العصور، إنّه المكان الذي تعلّم فيه الدمشقيون أنّ الحِرفة ليست وسيلة للعيش وحسب وإنّما هي شكلٌ من أشكال الانتماء، ورسالة تقول إنّ الأيدي التي تصنع بدقّةٍ وصبرٍ إنّما تصنع حضارةً لا تفنى.

سوق المناخلية التاريخي في دمشق القديمة…من صناعة المناخل إلى سوق متكامل
كلّ منخل وُلد في سوق المناخلية حمل في خيوطه حكاية يدٍ اعتادت الصبر ودقّة العمل (سانا)

تاريخ يمتد لقرون

يمتد عمر سوق المناخلية إلى أكثر من 18 قرنًا، كأنه مخطوطة حجرية تقرأها الأزمنة وتترك على صفحاتها وشومها المتتابعة، فقد كان السوق في بداياته شريانًا نابضًا يربط قلب دمشق بأطرافها، ومحطّة لا تهدأ تمرّ عبرها القوافل القادمة من سهول الغوطة وضفاف بردى ومنحدرات القلمون البعيدة، وفي أزقته الضيقة المبلّطة بالحصى كانت خطوات القوافل تتردّد إيقاعًا يوميًّا يحمل الخشب والحبوب والجلود، ويترك في الهواء رائحة تعبٍ ممتزجة بأصوات الباعة وهم ينادون على بضائعهم في نغماتٍ تُشبه تراتيل السوق القديم.

في تلك الأزمنة السحيقة كان السوق بمثابة قلب نابض للمدينة، تتدفّق إليه السلع كما تتدفّق الحكايات، ففيه يلتقي الفلاح القادم من الريف بالتاجر القادم من حلب أو تدمر، وهناك يتبادل التجار عملاتهم النحاسية والفضية على طاولات خشبية لا تخلو من دفء المساومة وذكاء الحرفيين، وكلّ حجر في المكان كان شاهدًا على تلك الحياة المتدفقة، كأن السوق لوح فسيفساء كبير يختزن تفاصيل الناس وأصواتهم وروائح بضائعهم في طبقات من الذاكرة الجمعية.

ومع توالي القرون ومع تعاقب الدول والإمبراطوريات، ظلّ السوق واقفًا كمن يرفض الانحناء أمام الزمن، وحين دخل العثمانيون دمشق، شهد السوق تحوّلًا عميقًا، فاتسعت أزقته، وازدادت حركة التجارة فيه، ونشأت على جانبيه صفوف من الدكاكين المتلاصقة التي تكاد تلامس بعضها بعضًا كما لو كانت أجسادًا تتحلّق حول دفءٍ واحد، فقد كانت تلك الحقبة لحظة ازدهار عمراني واجتماعي، فالسوق لم يعد مكانًا للبيع والشراء فقط، بل صار حيًّا مكتمل الملامح، أشبه بقرية صغيرة تنبض في قلب المدينة الكبيرة.

في هذه القرية المتشابكة الأرواح، كانت العلاقات الإنسانية أعمق من حركة البيع والشراء، والألفة بين الناس سيدة الموقف، الزبون ليس عابرًا غريبًا، بل جارٌ أو قريب أو صاحب عهدٍ قديم. والتاجر لم يكن يقف خلف بضاعته حارسًا للربح فحسب وإنّما كان أمينًا على سمعة أجداده وصوت الحارة الذي لا يخون.

من يدخل السوق في تلك الأيام، لا يحتاج إلى دليل يرشد خطاه، فعيون الباعة تعرف الغرباء والضيوف، وتستقبلهم بابتسامة تليق بمكان أدرك أنّ التجارة ليست فقط تبادلًا للسلع بل عقد صداقة متجددا مع الداخلين إليه.

إعلان

ومع مرور العقود صار السوق ذاكرة متراكمة للأحداث الكبرى والصغرى، من أيام الهدوء إلى لحظات الاضطراب، من زمن الولاة إلى زمن الإصلاحات، من أيام التوسع التجاري إلى سنوات الركود التي كان التجار يواجهونها بالصبر والعمل، وكلّما حاول الزمن أن يغيّر ملامح المكان، ازداد السوق تجذّرًا في ذاته، متمسكًا برائحته القديمة وصوته العتيق، وكأنّه يقول لدمشق إنّ البقاء ليس في الجمود وإنّما في الوفاء للجذور.

لقد ظلّ سوق المناخلية طوال هذه القرون مرآةً صافية لروح دمشق، يتكيّف مع العصور من غير أن يتنازل عن أصالته، ويتسع لحركة الزمن من غير أن يذوب فيها، ومن يقف عند عتباته اليوم يشعر أنّه أمام حيّ يتنفس، جدرانه تروي حكايات قرون من الصخب والهدوء من الفرح والكدّ من التجارة التي كانت وما تزال روح المدينة النابضة.

من يدخل السوق في تلك الأيام، لا يحتاج إلى دليل يرشد خطاه؛ فعيون الباعة تعرف الغرباء والضيوف، وتستقبلهم بابتسامة تليق بمكان
من يدخل سوق المناخلية لا يحتاج إلى دليل يرشد خطاه فعيون الباعة تعرف الغرباء والضيوف وتستقبلهم بابتسامة تليق بالمكان (سانا)

حِرفة وأخلاق

لم يكن سوق المناخلية محض مساحة يتبادل فيها الناس السلع وإنّما كان فضاءً يتشكّل فيه وجدان المدينة ويتربّى فيه ضميرها الجمعي، فبين ضيق الأزقّة وتعانق الدكاكين المتقابلة نشأت منظومة من القيم التي جعلت الحِرفة أكثر من مهنة، والتجارة أوسع من بيع وشراء، لقد كان السوق مدرسة في الأخلاق قبل أن يكون سوقًا في التجارة، وساحة تتقاطع فيها الصنعة مع النُّبل فتخرج البضاعة من يد الصانع مشفوعة بروح الصدق والوفاء.

في هذا السوق العتيق تقاسم التجار أرزاقهم كما يتقاسم الأشقاء رغيفًا واحدًا، فلم يعرف أهل المناخلية معنى التنافس الجشع، فقد كان الرزق يُقسم بوعي جماعي عميق، إن باع أحدهم في الصباح وامتلأت يده، دلّ الزبون في المساء على دكان جاره، وكأنّ الرزق ليس غنيمة فردية بل عهدٌ اجتماعي يتشاركه الجميع، ولم تكن هذه العادة قانونًا مكتوبًا، بل عرفًا خفيًّا يسري في عروق السوق كما يسري الماء في مسامّ الحجر، فيصنع بين الناس رباطًا من الثقة والمحبّة.

وكانت الدكاكين بواجهاتها الخشبية البسيطة أشبه بمقاعد صفوف يتعلّم فيها الداخلون معنى الأمانة في المعاملة، فالتاجر هنا لا يقف خلف ميزانه محتميًا بصرامة الأرقام بل متسربلًا بوعي أنّ البيع والشراء ميثاق قبل أن يكون صفقة، فالكلمات الصادقة كانت ميزان السوق والابتسامة الصافية كانت مفتاحه وأصوات الترحيب التي تعلو كلّما دخل غريب كانت إعلانا عن حفاوة لا تتكلّف ولا تزول.

ومن بين الحجارة القديمة التي تكسو أرضه وجدرانه كانت تتسرّب حكمة صامتة، حكمة تقول إنّ الصنعة بلا أخلاق جسد بلا روح، وإنّ التجارة بلا قيم زبد لا يمكث في الأرض، فقد كان السوق يربّي أبناءه على أنّ اليد التي تعمل ينبغي أن تظلّ نظيفة، وأنّ الرزق الذي يُكتسب بالحيلة يفقد بركته، بينما الرزق الذي يرافقه رضا القلوب يثمر حياة كريمة ومكانة راسخة.

ومع مرور السنين، ظلّت هذه الأخلاق راسخة رغم تبدّل الأزمنة كأن السوق نفسه حارس لهذه القيم يلقّنها لجيل بعد جيل، فكلّ شابّ يدخل عالمًا من الصنائع يجد نفسه في حضرة رجالٍ يروون له حكايات الجدّ الأول الذي كان يزن بكفّه قبل أن يزن بميزانه، ويذكّرونه أنّ الزبون الذي يخرج راضيًا يفتح للسوق أبواب البركة أكثر من أي ربح سريع.

هذا الإرث الأخلاقي لم يصنع مجتمعًا تجاريًا فحسب ولكنّه نسج نسيجًا اجتماعيًا متماسكًا، يربط بين الناس بخيوط من الاحترام والثقة المتبادلة، وهكذا تحوّل السوق إلى قلب نابض من قلوب دمشق القديمة، قلب يذكّر كلّ من يمرّ به أنّ المدينة ليست حجرًا ومعمارًا فقط وإنّما روح متجذّرة في قيمها، وروح تصنع من العمل اليومي طقسا من طقوس النقاء والكرم.

معالم تحيط بالمكان

يستقرّ سوق المناخلية في قلب دمشق القديمة كدرّةٍ محفوفة بسوارٍ من المعالم التاريخية التي تمنحه مهابةً فريدة وملامح لا تتكرّر، فحيثما ولّيت وجهك في أزقّته يطلّ عليك أثر يهمس بحكاية، وتحيط بك شواهد عمرانية تحاكي عبق القرون وتختزن ذاكرة المكان.

إعلان

قريبًا من مدخله الشرقي يقف جامع الظاهر شامخًا مئذنته كأنّها إصبع من نور يشير إلى السماء، وجدرانه تعكس تواضع الحجارة وقداستها في آنٍ واحد، هنا تلتقي أصوات التجار مع خيوط الأذان التي تنساب في الهواء، فتغدو الحياة اليومية في السوق امتدادًا طبيعيًا لروح العبادة التي تحفّ المكان.

وعلى مسافة خطوات قصيرة، يتوارى حمّام سامي العثماني خلف جدرانه العتيقة، شاهدًا على زمنٍ كان الحمّام فيه ملتقى للأجساد المتعبة من صخب العمل، ومجلسًا لرجال الحي يتبادلون فيه الحكايات والآراء، هو أثرٌ يفيض بدفء الأزمنة التي عرفت قيمة الاجتماع والأنس، وكأنّ بخاره المتصاعد من نوافذه الصغيرة ما زال يحمل في طيّاته أصوات الذين مرّوا من هنا.

ثم تمتدّ خطواتك إلى حيث تعانقك مئذنة جامع سنان آغا شامخة منذ 6 قرون، لا تنحني لعصف الرياح ولا لغبار العصور، وحجارتها الملساء تعكس ذاكرة البنّائين الأوائل الذين شادوا معمارا يزاوج بين صرامة القوة ورقّة الجمال، تلك المئذنة، التي ظلّ صوت المؤذن يتردّد منها عبر مئات السنين، تمنح السوق شعورا بأنّه محروس بعين الزمن ومتصل بسلسلة طويلة من الدعاء والصلاة.

وعلى أطراف السوق يطلّ جامع المعلا بجلاله على الممرّات الضيّقة المتعرجة، ويراقب الداخلين والخارجين كأبٍ وقور، حاملا في أركانه حكايات أجيال تعاقبت بين أذان الصبح وضوضاء البيع والشراء، فبين محرابه ومئذنته تختبئ أسرار آلاف الأيام التي مرّت، من صمت الفجر إلى صخب الظهيرة، ومن دعاء العشاء إلى هدأة الليل.

هذه المعالم ليست مجرّد حجارة صامتة ولا جدران عتيقة، إنّها أوتاد روحية تُثبّت روح السوق في قلب دمشق القديمة، وإنّ وجودها حول المناخلية أشبه بهالة من قداسة وحنين، تغلّف المكان كما يغلف الإطار لوحة ثمينة، فكلّ زاوية فيها تُذكّر العابر بأنّه يمشي فوق أرضٍ تتشابك فيها طبقات الزمان، حيث تتقاطع الحِرف مع العبادة، والتجارة مع الصمت، والضجيج اليومي مع السكينة التي تنبع من عمق التاريخ.

هكذا يتجاوز سوق المناخلية كونه مجرّد حيّ تجاري ليصبح نقطة التقاء بين العمران والروح، بين التجارة التي لا تهدأ، والطمأنينة التي تنبع من حضور هذه المعالم التي ما زالت، إلى اليوم، تروي بصمتها أن المكان ليس مجرّد زقاق قديم، وإنّما جزء من ذاكرة مدينة تعرف كيف تصون إرثها وتحفظ أناقتها أمام الزمن.

الزمن في المناخلية لا يسير كما يسير في بقية أحياء دمشق؛ إنّه يمشي على مهل، كأنّه يحاول أن يحفظ للمكان إيقاعه القديم
الزمن في المناخلية لا يسير كما يسير في بقية أحياء دمشق إنّه يمشي على مهل كأنّه يحاول أن يحفظ للمكان إيقاعه القديم (سانا)

السوق اليوم

ما زال سوق المناخلية شامخًا في قلب دمشق القديمة يواجه عصف التحوّلات بروحٍ متجذّرة في الأرض وذاكرة تحفظ ملامح الأزمنة المتراكمة على جدرانه، تتقاطع في أزقّته الضيّقة أصوات الماضي مع أنفاس الحاضر، فتبدو الدكاكين الصغيرة وقد صارت خزائن للتاريخ أكثر منها أماكن للبيع والشراء، فكلّ حجر فيه يحمل أثر يدٍ مرّت عليه، وكلّ زاوية تحكي حكاية جيلٍ قاوم تغيّر المدينة وتمسّك بأن تبقى المناخلية حيّة في قلب دمشق كما وُلدت قبل قرون.

في السنوات الأخيرة واجه السوق خطر الاندثار حين لوّحت مشاريع عمرانية ضخمة بطمس معالمه، وإزاحة ملامحه العتيقة لحساب أبراجٍ تجارية جديدة، غير أنّ أبناءه لم يرضخوا لرياح التغيير القاسية بل التفّوا حول سوقهم كما يلتفّ الجسد حول قلبه، فوقفوا صفًّا واحدًا، يكتبون رسائلهم إلى المؤسسات والجهات المعنية، يرفعون صوتهم في وجه جرافات النسيان، مؤمنين أنّ المكان ليس حجرًا ولا متجرًا فحسب، بل روحًا تعيش في تفاصيلهم، وأمانة توارثوها جيلًا بعد جيل.

ثم تحوّل الرفض إلى فعلٍ ملموس، أعادوا ترميم المحال بأيديهم، أصلحوا الجدران المتعبة من ثقل السنين، وجدّدوا سقفه المعدني المعرّج الذي يحمي الممرات من شمس الصيف وأمطار الشتاء، ليعود السوق إلى نبضه الأول، يلمع في ضوء النهار كما لو أنّه شابٌ خرج لتوّه من ذاكرة الزمن، وبهذه الجهود تطهّرت الأزقة بروح جماعية حيث لم ينتظر الناس مبادرات رسمية، بل نهضوا بأنفسهم ليحافظوا على السوق بوصفه بيتًا كبيرًا لهم، وامتدادًا حيًّا لأرواح آبائهم.

اليوم، يمشي الزائر في السوق فيرى فيه لوحة حيّة تختلط فيها الوجوه القديمة بالوجوه الجديدة، فيسمع ضحكات الأطفال تختلط بنداءات التجار، ويلمس في الهواء عبق الأخشاب الممزوجة برائحة الحديد والدهان، ويشعر أنّ الزمن في المناخلية لا يسير كما يسير في بقية أحياء دمشق، إنّه يمشي على مهل، كأنّه يحاول أن يحفظ للمكان إيقاعه القديم الذي لا يتسرّع ولا يشيخ.

إعلان

ومع ذلك، يظلّ السوق يواجه تحديات العصر، ضيق مساحته أمام زحف العمران الحديث، ضغط الأسواق الكبرى التي غزت المدينة بطابعها السريع، وانحسار الحرف التقليدية أمام اندفاع المنتجات الصناعية الجاهزة، غير أنّ المناخلية، رغم كل ذلك، تظلّ تقاوم بخصوصيتها، وتبقى مساحةً تتشبّث بذاكرتها، وتقدّم درسًا في أنّ المكان إذا تشرّب بروح أهله ظلّ حيًّا مهما تبدّلت العصور.

وفي المساء حين تهدأ الضوضاء، ويغلق أصحاب الدكاكين أبوابهم الخشبية، يتجلّى السوق في صمته كأنه أثرٌ يتنفّس ببطء، يحتفظ بحرارة النهار ليبثّها في حجارة الأزقة العتيقة، فكلّ زاوية فيه تشهد أنّ المكان ليس جمادًا بل كائن حيّ ينهض كل صباح على صوت الأذان، ويستقبل ضوء النهار بنكهة القهوة الدمشقية، ويستمرّ في ترديد الوعد ذاته، أنّ دمشق القديمة ستظلّ متكئة على ذاكرة لا تموت، ومرآة تعكس وجوه الذين مرّوا من هنا عبر القرون.

نبض الحياة والتحديات

يموج سوق المناخلية اليوم بحركة لا تهدأ، تفتح الدكاكين أبوابها مع أول خيط للفجر، وتتعالى نداءات الباعة في الأزقة الضيقة، وتتشابك خطوات الزوار مع وقع أصوات المطارق وأزيز الأدوات المعدنية، إنّه نبض يومي يتدفق كما يتدفق الماء في عروق المدينة القديمة، يربط الحاضر بالماضي في إيقاع متناغم يعكس روح دمشق وهي تتنفس عبر أسواقها العريقة، هنا تُباع أدوات البناء والخردوات، وهناك تُسرد الحكايات على أرصفة ضيقة تتناثر فوقها ظلال الذاكرة.

ومع كل هذا الحضور المتجدد يواجه السوق امتحانات عسيرة تشبه تحديات المدن القديمة أمام زحف الحداثة، فازدحام المدينة المتسارع يضغط على أزقته المتعرجة التي بُنيت لتستوعب المارة لا جموع السيارات والمتسوقين الذين يبحثون عن اختصار المسافات وسرعة الإنجاز، وطبيعة التجارة تغيّرت هي الأخرى فلم تعد الحِرفة البطيئة المتأنية سيدة الموقف فقد أخذت الصناعات السريعة والمنتجات الجاهزة تزاحم البضاعة اليدوية التي كانت تُصنع في صمت الأيدي ودفء الورش الصغيرة.

ويتضاعف الضغط مع التوسّع العمراني الذي يمدّ أذرعه نحو قلب دمشق القديمة، فيهدد هوية المكان ورونق الأزقة التي حملت عبق قرون، وبعض المحال الصغيرة أُجبرت على التكيّف مع أنماط جديدة من العرض والتسويق، في محاولة للحفاظ على وجودها وسط عالم يتبدل بسرعة تفوق إيقاع الأزقة القديمة. ومع ذلك، يقف السوق ثابتًا، كجذع شجرة عتيقة تضرب جذورها عميقًا في الأرض، تستمد قوتها من ذاكرة الأزقة ومن أصوات أجيالٍ مرّت وتركت آثارها في الحجر والخشب والعطر العالق في هواء المكان.

ورغم هذه التحديات ما زال سوق المناخلية يحتفظ بفرادته، فمن يدخله يشعر أنه يخطو إلى عالمٍ آخر، عالمٍ لا يقيس الوقت بالدقائق وإنّما بنبض الأرواح وروائح الحرف التي تعبق في الجو. حتى ازدحام الممرات الضيقة يبدو مختلفًا، أقرب إلى طقس اجتماعي حيّ تتقاطع فيه الوجوه وتتبادل فيه التحيات فتبدو الزحمة كأنها خيطٌ يشدّ أبناء المكان إلى بعضهم البعض، ويمنح السوق دفئًا لا يشبه أي مكان آخر.

إنه امتحان البقاء في وجه الزمن، امتحانٌ يفرض على السوق أن يوازن بين إرثه القديم وروح العصر التي تفرض إيقاعًا سريعًا، ومع كل ذلك يظل سوق المناخلية يقاوم بانحناءة الحكيم لا بعناد الغافل، يتكيف دون أن يفقد روحه، ويتجدّد من غير أن ينقطع عن جذوره، فهو يدرك أن هويته ليست في الجدران وحدها ولا في الممرات الملتوية وإنّما في الروح الجمعية التي ما زالت تحفظ للسوق نكهته الخاصة، وتجعل منه أيقونة من أيقونات دمشق التي لا تهرم مهما تبدّلت الوجوه والعصور.

وأخيرًا، سوق المناخلية ليس مجرّد زقاق تجاري في دمشق لكنّه فصل من كتاب المدينة العتيقة، يروي سيرة ناسها وحِرفهم، ويمثل مختبرًا لروح التقاليد الدمشقية التي ترى في العمل عبادة وفي الصنعة هوية، إنّه مكان تعلّمت فيه الأيدي أن تنحت من الخشب منخلًا، ومن الحديد أداة، ومن الصدق قيمة، ومن الصبر حياة.

من يقف في قلبه اليوم يشعر أنّه لا يسير في سوق فحسب لكنّه في ممرّ من الزمن حيث يتلاقى صوت المطرقة القديمة مع ضحكات الصغار، ورائحة الخشب مع عبق التاريخ فيبقى المكان شاهدًا على أن دمشق ما تزال تحفظ سرّها الأعمق في أزقة أسواقها العتيقة.

0 تعليق