الكابوس الأكبر لإسرائيل الآن - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لعلك لا تجد اليوم في الأدبيات العبرية كلمة توازي كلمة "الكابوس" بالنسبة لإسرائيل أكثر من كلمة "انتفاضة". فالانتفاضة كانت على الدوام نقطة مفصلية في حركة الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال؛ ثورة شعبية عارمة تقلب الموازين وتغير الوقائع على الأرض.

لذلك خشيت إسرائيل دوما من احتمال تكرار الانتفاضة بعد أن شهدت أحداثها مرتين خلال عقود الاحتلال الطويلة. فالانتفاضة الأولى أواخر 1987 حملت تغييرا جوهريا في أسلوب تعامل الفلسطينيين مع الاحتلال، وتعامل الاحتلال معهم، وكتبت واقعا جديدا كان أحد أهم تجلياته بروز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي تأسست مع انطلاقة الانتفاضة.

أما الانتفاضة الثانية عام 2000، فقد أدت إلى انقسام فصائلي واضح بين معسكر تخلى عن السلاح لصالح النضال السياسي والدبلوماسي، وآخر تبنى خيار المقاومة المسلحة وتطور إلى بنى منظمة قادرة على إدارة معارك عسكرية وحروب عصابات وشوارع.

في الحالة الأولى واجهت إسرائيل حقيقة أن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967 لم يستسلموا للاحتلال، ولم تقنعهم "التسهيلات" في الحركة بأن يقبلوا بمصادرة الأرض وتوسيع الاستيطان.

وجاءت شرارة الانتفاضة من غزة إثر دهس مستوطن عمالا فلسطينيين، فاندلع فعل شعبي مفاجئ وعارم؛ تطور من الحجر والمقلاع إلى السكين فالبندقية فالعبوات الناسفة مع نهاية المرحلة. ومع تراكم الكلفة، فُرض واقع سياسي جديد أدى إلى توقيع اتفاقية أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، بما يعنيه ذلك من تخلص إسرائيل من عبء إدارة الحياة اليومية للفلسطينيين في الضفة وغزة.

ولم يكد العالم يظن أن الفلسطينيين سلموا بفكرة السلطة باعتبارها الطريق العملي لإقامة الدولة المفترضة بحلول سبتمبر/أيلول 1999، حتى فاجؤُوه بانتفاضة الأقصى في أواخر سبتمبر/أيلول 2000.

انطلقت بالسلاح الناري مباشرة، وشهدت منذ بداياتها انخراط الأجهزة الأمنية الفلسطينية إلى جانب فصائل المقاومة. واستخدمت إسرائيل لأول مرة الطيران الحربي والصواريخ الموجهة في قصف المدن الفلسطينية، فارتفعت الخسائر في صفوف الفلسطينيين، لكن الاحتلال تكبد أيضا خسائر بشرية وسياسية موجعة، ليس أقلها اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي على يد مقاومي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 2001.

إعلان

وفي النهاية، اضطرت إسرائيل إلى واحد من أكثر تراجعاتها خطورة في تاريخها المعاصر حين انسحبت من قطاع غزة 2005، وفككت مستوطناته، في مشهد أثبت أن إسرائيل يمكن أن تهزم وتنسحب، وليست قدرا ثابتا.

من هنا ارتبطت كلمة "انتفاضة" في الوعي الإسرائيلي بالتراجع القسري والتغييرات العميقة، فباتت الحكومات اللاحقة تسخر إمكاناتها لمنع انتفاضة ثالثة. ومع ذلك بقي شبحها ماثلا.

ففي 2015 فجر مهند حلبي "هبة القدس" بعملية طعن أعقبتها عمليات متتالية ردا على منع الرباط في المسجد الأقصى، فاندفع وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري إلى المنطقة لضبط التدهور. وتكرر المشهد في 2017 خلال "هبة باب الأسباط"، حين أُجبرت حكومة نتنياهو على إزالة البوابات الإلكترونية من مداخل الأقصى بعد عملية مستوطنة "حلاميش". وكان المعنى واحدا: أي احتكاك قابل لأن يتدحرج إلى انتفاضة ثالثة.

اليوم، ومع تلاقي المشاهد في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، تتشكل ملامح مرحلة لا يمكن أن تستمر طويلا دون انفجار. وتشير المؤشرات إلى أننا أقرب ما نكون إلى انتفاضة ثالثة قد تكون أشد وأوسع وأطول نفَسا؛ ليس لأنها خيار معد سلفا، بل لأنها مسار تفرضه الوقائع التي خلقها الاحتلال نفسه.

أولى هذه الوقائع ما يجري في قطاع غزة من مجازر ودمار غير مسبوقين وصفهما طيف واسع من المنظمات الدولية والحقوقية بالإبادة الجماعية، وأدانتهما أغلب دول العالم باستثناء الولايات المتحدة وعدد قليل من الحكومات المتحالفة مع إسرائيل.

هذا المسار انعكس على بقية الملفات الفلسطينية: الأسرى والسجون والضفة والقدس والمسجد الأقصى. أما صمت الفلسطينيين الظاهر فلا يقرأ إلا باعتباره صدمة ترويع مؤقتة؛ فالتاريخ يقول إن الشعوب في الصراعات الطويلة تحول الصدمة إلى موجة غضب وفعل منظم.

وفي القدس والمسجد الأقصى تتسارع محاولات نقل السيادة الفعلية من يد الأوقاف الإسلامية إلى هيئة استيطانية متطرفة أنشأها المستوطنون باسم "إدارة جبل المعبد"، تتعاطى معها الحكومة بحكم الأمر الواقع وإن لم تعلن اعترافا رسميا بها.

ونحن على أعتاب الموسم السنوي الأخطر على المسجد، يمتد من 22 سبتمبر/أيلول حتى منتصف أكتوبر/تشرين الأول، ويشمل رأس السنة العبرية ويوم الغفران وعيد العرش؛ وهي مناسبات يرتبط جزء كبير منها بالأقصى وتشهد كل عام محاولات فرض وقائع جديدة.

ومع تبدل موازين القوة والمخاوف من الانفجار، تبدو احتمالات تشييد كنيس داخل حدود المسجد لأول مرة مطروحة عمليا على جدول تيار الصهيونية الدينية.

أما الضفة الغربية فتواجه توحشا غير مسبوق لعصابات المستوطنين برعاية حكومية كاملة. فقد تحول هؤلاء إلى ما يشبه جيشا موازيا، يجري تسليحه وتدريبه بصورة منهجية؛ إذ تشير المعطيات المتداولة إلى توزيع أكثر من ربع مليون قطعة سلاح عليهم خلال العامين الأخيرين عبر وزارة الأمن القومي التي يقودها إيتمار بن غفير.

وهذا التسليح المكثف يرافقه خطاب أيديولوجي متشدد يسعى لفرض سيطرة يهودية مطلقة على الأرض والسكان عبر تشديد الحواجز والاعتداء على القرى، وفرض وقائع قسرية هناك، وبهذا تتقاطع إرادة المستوطنين مع سياسات الحكومة التي تدفع باتجاه الضم، وتفكيك إمكانية قيام كيان فلسطيني قابل للحياة.

إعلان

تتداخل مع تلك الحقائق مسألة السلطة الفلسطينية، التي مثلت قيادتها الحالية عاملا كابحا لاندلاع انتفاضة عامة عبر التنسيق الأمني وإدارة الشأن الداخلي. غير أن وجودها اليوم يبدو على شفير الانهيار لأسباب مالية وبنيوية وسياسية.

فمشروع ضم الضفة الذي يدفع به تيار الصهيونية الدينية يتناقض جذريا مع بقاء سلطة تمثل الفلسطينيين- ولو رمزيا- داخل الأرض المحتلة.

ويتخيل هذا التيار أن الضم سيفضي عمليا إلى دفع أعداد كبيرة من الفلسطينيين نحو الأردن وفق أفكار "الترانسفير" التي روج لها رحبعام زئيفي، وهو خيار يصعب تطبيقه في ظل وجود سلطة تعد عنوانا سياسيا للفلسطينيين في الداخل. لذا يصبح إسقاطها- عبر خنقها ماليا وتفكيك بنيتها- هدفا منطقيا ضمن هذا التصور.

لكن ما لا يحسب الاحتلال حسابه أن السلطة ليست مجرد وزارات وميزانيات؛ فقد نشأت معها أجهزة أمنية صُرفت عليها ملايين الدولارات في التدريب والتسليح، وأفراد هذه الأجهزة مسلحون ومنتشرون في المدن والقرى والمخيمات. وهم لا يحملون بالإجماع بالضرورة الرؤية السياسية ذاتها التي تتبناها القيادة الرسمية، وقد يجدون أنفسهم- إذا شعروا بتهديد مباشر لهم ولعوائلهم- أقرب إلى الانحياز لمجتمعهم وأحيائهم من الانضباط لأوامر سياسية عاجزة عن حمايتهم من محاولات التهجير القسري التي قد ترافق مشروعات الضم.

وهذا الاحتمال يضيف عنصر عدم يقين خطيرا على أي سيناريو تتطلع إليه القوى الإسرائيلية لدفع الفلسطينيين خارج معادلة الأرض.

وعليه، فإن الضفة الغربية تقف اليوم عند نقطة تجمع ثلاثة عناصر قليلة الاجتماع، هي: كثافة السلاح بين فاعلين أهليين، ضغط يومي متصاعد بفعل الاستيطان والحواجز والاعتقالات، وانسداد أفق سياسي واقتصادي.

هذه وصفة كلاسيكية لانفجار شعبي واسع لا يحتاج إلى قرار مركزي، على عكس الانتفاضتين السابقتين اللتين كانت لهما قيادة سياسية واضحة. وما يرجح هذا السيناريو أن الجمهور- إذا شعر بأن الكلفة موزعة على الجميع- ينتج قياداته الميدانية الخاصة تلقائيا، وتلتحق به الفصائل قسرا، أو يفرز قيادة جديدة برؤية تختلف جذريا عن السلطة وعن الفصائل التقليدية.

قد تتخذ الانتفاضة المقبلة عند اندلاعها أشكالا مركبة: عمليات موضعية متزامنة، تعطيلا لشبكات الطرق الاستيطانية، اشتباكات ليلية حول الحواجز، ومقاومة شعبية واقتصادية تعيد تعريف العلاقة اليومية مع الاحتلال.

ومن المرجح أيضا أن تلعب التكنولوجيا البسيطة ومنصات الاتصال المغلقة دورا مركزيا في التنظيم والتنسيق بعيدا عن أعين الرقابة، وأن يترافق الحراك الميداني مع موجة قانونية وإعلامية دولية أوسع تستثمر تحولات الرأي العام العالمي بعد مشاهد غزة، بما يقلص قدرة إسرائيل على إدارة المواجهة بوصفات أمنية تقليدية.

ولا يعني ذلك أن الطريق ممهد؛ فإسرائيل ستسعى إلى امتصاص الصدمات عبر اعتقالات واسعة وعمليات مركزة ضد البؤر النشطة، ومحاولات شق الصف الفلسطيني سياسيا وميدانيا، كما حاولت في مشروع روابط القرى في الثمانينيات.

لكن خبرة العقود الماضية تقول إن الإجراءات الأمنية مهما بلغت شدتها لا تستطيع وحدها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء إذا تبدلت الشروط على الأرض. ومع كل يوم يظل فيه الأفق السياسي مسدودا، تتزايد احتمالات الانفجار، وتتقلص فرص نجاح البدائل الجزئية، أو الترتيبات المؤقتة.

إلى جانب هذه المحددات الأمنية والسياسية، تلعب العوامل الاجتماعية والاقتصادية دورا مسرعا. فالمشهد المعيشي في المدن والمخيمات يتدهور بفعل الحصار، وارتفاع الأسعار، وتفاقم القيود على الحركة بين القرى والبلدات، وتعطل الحياة الجامعية مرارا بفعل الاقتحامات، ما يعمق شعور الأجيال الشابة بانسداد المستقبل، ويغذي قابلية الانخراط في أنماط مقاومة مرنة لا تتطلب بنى تنظيمية ثقيلة.

إعلان

كما أن شبكات العائلة والحي باتت تؤدي وظيفة الإسناد اللوجيستي للنشاطات الميدانية، من توفير الملاذات إلى مراقبة تحركات الجيش والمستوطنين، وهو ما شوهد بوضوح في مدن شمال الضفة وريفها خلال العامين الأخيرين. وفي الوقت نفسه، تتزايد مبادرات المقاطعة الاقتصادية والرفض المدني اليومي للإدارة المدنية للاحتلال وما يتعلق بها.

خلاصة القول: إن العناصر التي جعلت كابوس "الانتفاضة" حاضرا في الوجدان الإسرائيلي، أي الخسائر الكبيرة والتراجعات القسرية وتغير موازين القوة، تعود اليوم بصورة أكثر كثافة واتساعا.

غزة الجريحة، والقدس المهددة بمعادلات سيادة جديدة داخل الأقصى، والضفة التي تتعايش مع جيش مستوطنين موازٍ وسلطة آيلة للانهيار؛ كلها تشكل لوحة يصعب استمرارها دون حدث مفصلي.

ولئن اختلفت السيناريوهات التفصيلية لشكل الانفجار المقبل، فإن الثابت أن ما بعده لن يكون كما قبله؛ وسيَكتب فصلا جديدا في تاريخ القضية الفلسطينية، وإن غدا لناظره قريب.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق