يترقب معظم السوريين تشكيل مجلس الشعب المؤقت الذي سيجري انتخاب ثلثي أعضائه في الفترة بين 15 و20 سبتمبر/أيلول الجاري، بطريقة غير مباشرة عبر هيئات ناخبة شكلتها اللجنة العليا للانتخابات، فيما سيعين الرئيس أحمد الشرع الثلث الباقي.
وتسكن ذاكرة السوريين صورة سيئة عن مجلس الشعب في عهد نظام الأسد البائد؛ لأنه كان أقرب إلى مجلس تصفيق، غايته التصديق على تشريعات النظام وقراراته، ولم يكن يمثل مصالح الشعب، بل كان أداة وظيفية طيّعة لخدمة النظام.
وبالمقابل، ما تزال ذاكرتهم البعيدة تحمل صورا ناصعة عن المجلس النيابي الذي كان يقود الحياة السياسية في فترة ما بعد الاستقلال، وصولا إلى الوحدة السورية مع مصر 1958، حيث جرى إيقاف الحياة السياسية، وإلغاء التعددية الحزبية.
صعوبات
الغاية من تشكيل مجلس الشعب المؤقت هي إنهاء حالة الفراغ التشريعي التي دخلتها سوريا بعد إسقاط نظام الأسد 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، وخاصة بعد أن جرى حل مجلس الشعب التابع للنظام البائد 29 يناير/كانون الثاني الماضي، إلى جانب حل حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يهيمن عليه، فضلا عن إلغاء العمل بالدستور، وحل الفصائل المسلحة والأجهزة الأمنية.
إضافة إلى أن تشكيل هذا المجلس يسهم في منح العملية الانتقالية غطاء قانونيا، لذلك يعوّل السوري على الجسم الجديد كي يشكل محطة هامة في مسار الانتقال السياسي، ويعيد الحياة النيابية التي يتوق إليها عموم السوريين، لذا فإن الأنظار تتجه إلى ما سيحمله مجلس الشعب المؤقت للسوريين.
يدرك جميع المهتمين بالشأن السوري صعوبة إجراء انتخابات سورية حرة شعبية كاملة، بالنظر إلى جملة من الأسباب، أهمها:
1- طبيعة المرحلة الانتقالية الهشة أمنيا، خاصة أن مسارات التشكيل البرلماني عبر الانتخابات العامة تحتاج إلى فترة زمنية كافية، ليست بالقصيرة.
إعلان
2- توحيد الجغرافيا السورية، حيث ما تزال أجزاء هامة في الشمال الشرقي من سوريا وجنوبها خارج سيادة الدولة.
3- صعوبة القيام بإحصاء سكاني عام، وتواجد حوالي ثلث السوريين (حوالي سبعة ملايين) في الخارج، لاجئين، أو منفيين أو مهاجرين. إضافة إلى حركة النزوح الواسعة التي طالت العديد من مناطق سوريا، وفقدان النازحين لعناوينهم الموثقة.
4- يحتاج إجراء انتخابات عامة إلى وجود أرضية قانونية وإجرائية، وبنية تحتية مؤهلة لإجراء الانتخابات في بلدان اللجوء ومخيمات النزوح، وتوفير الأمن والأمان لإجراء الانتخابات وسوى ذلك، وهو ما لا يتوفر عادة في المراحل الانتقالية عموما، وفي سوريا على وجه الخصوص.
من المرجح أن مثل هذه العقبات دفعت لجنة الإعلان الدستوري إلى هذا الإجراء المؤقت خلال المرحلة الانتقالية، لكن مع ذلك كله، فإن مسألة عدم إجراء انتخابات عامة مباشرة ستظل موضع نقاش وجدل، خاصة إن فشلت أو تعثرت تلك الإجراءات المؤقتة في تحقيق غايتها، المتمثلة في الوصول إلى مجلس تشريعي يتمتع بحد مقبول من التمثيل العادل لكافة مكونات المجتمع السوري وفئاته، وضمان وصول أصحاب الكفاءات إليه.
النظام والشروط
حدد المرسوم الرئاسي الخاص بالنظام الانتخابي المؤقت لمجلس الشعب العدد الإجمالي للأعضاء بـ 210 مقاعد، وحصر المرسوم الترشح لعضوية البرلمان بأعضاء الهيئات الناخبة المعتمدة بالقوائم النهائية، على أن يُقر المرشح بعدم الجمع بين العضوية وأية وظيفة عامة أخرى، باستثناء التدريس الجامعي.
واعتمدت نماذج موحدة للترشح عبر اللجنة العليا، بما يعزز الطابع الإداري والتنظيمي للعملية الانتخابية. أما مقاعد المجلس، فقد توزعت على المحافظات وفق التعداد السكاني، بحيث لا يقل تمثيل أية دائرة انتخابية عن مقعد واحد.
ومنح المرسوم اللجنة العليا للانتخابات مهمة الإشراف الكامل على العملية الانتخابية، بما في ذلك إدارة اللجان الفرعية، واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لضمان "حرية الانتخابات وسلامتها ونزاهتها". ووضع جملة من الشروط على المترشحين، تتلخص في:
1- عدم السماح لمن ترشح للانتخابات الرئاسية بعد العام 2011 بخوض انتخابات المجلس المؤقت.
2- منع كل من شغل عضوية مجلس الشعب أو ترشح له بعد 2011، إلا إذا أثبت انشقاقه عن النظام السابق.
3- استبعاد داعمي النظام السابق من الترشح، إضافة إلى منع دعاة الانفصال، أو من اتهم بالاستقواء بالخارج، وكذلك أعضاء المنظمات الإرهابية.
4- حظر ترشح العسكريين ومنتسبي الأجهزة الأمنية، والوزراء والمحافظين ونوابهم ومعاونيهم.
تأجيل الانتخابات
غير أن النقطة التي أثارت جدلا هي تأجيل الانتخابات في محافظات الرقة، والحسكة، والسويداء، التي تمثل مقاعدها ما يقارب 10% من مقاعد المجلس، واقترحت اللجنة العليا للانتخابات ثلاثة خيارات بديلة، تتمثل في السماح بالتصويت خارج المحافظات السورية الثلاث، أو أن يتم تعيين نواب عنها تعيينا مباشرا من حصة الرئيس، أو أن تترك المقاعد شاغرة إلى حين زوال الظروف المانعة، وتوفر الظروف المناسبة.
تجادل سلطة ما بعد نظام الأسد بأن قرار تأجيل الانتخابات في 3 محافظات فقط، وإجرائها في باقي البلاد، هو مخرج اضطراري؛ بسبب الوضع الأمني، لكن في حقيقة الأمر لا تنحصر الأسباب في الجانب الأمني فقط، بل تتعداها إلى الجانب السياسي، إذ لا تعترف قوى الأمر الواقع في هذه المحافظات بكل ما يصدر عن السلطة الجديدة، ومن غير الممكن عمليا إجراء انتخابات تحت إشراف تلك القوى.
إعلان
وكان متوقعا أن يعلن قادة في قوات سوريا الديمقراطية "قسَد"، وفي "الإدارة الذاتية" أنه جرى "إقصاؤهم عن العملية السياسية والاستحقاق الانتخابي"، وأن ذلك يمثل انتكاسة في مسار التفاوض وعودته إلى المربع الأول، وفيما وصف بعضهم قرار تأجيل الانتخابات في مناطق سيطرة "قسد" بأنه إحدى الخُطوات الأحادية الناقصة، ولا تستند إلى غطاء دستوري، أو شرعية وطنية قانونية في ظل غياب مشاركة المكونات السورية في إنشاء المؤسسات السيادية للدولة.
لا يختلف الوضع في السويداء كثيرا عن الوضع في شمال شرقي سوريا، حيث لا تعترف جماعة الشيخ حكمت الهجري بالسلطة السورية الجديدة، وتمادت كثيرا حين طلبت الانفصال عن سوريا، والانضمام إلى إسرائيل، وتجاوزت بذلك كل الخطوط الحمر، وأحدثت شرخا عميقا في الوطنية السورية.
وبالتالي من غير الممكن إجراء الانتخابات في محافظة السويداء في ظل سيطرة مليشيات الهجري عليها، التي تحولت إلى قوة أمر واقع، فرضت على غالبية أهل السويداء أجندتها التي لا يوافق عليها غالبيتهم.
الحكم على التجربة
يصعب الحكم على عملية تشكيل المجلس التشريعي المؤقت؛ لأنها لم تدخل بعد حيز التنفيذ، لكن نجاحها يتوقف على قدرتها في إيصال شخصيات تتمتع بالكفاءة والنزاهة، وتعكس تمثيل مختلف شرائح وفئات السوريين وتكويناتهم، في بلد يسعى إلى التغلب على تركة نظام الأسد البائد من فساد وخراب ودمار.
إن كان هناك معيار للحكم على انتخابات مجلس الشعب، فهو يتمثل في نجاح كل من السلطة الجديدة وعموم السوريين في اختبار قدرة كل منهما على تحمل المسؤولية الوطنية، والحرص على تقديم نموذج مدني حضاري، يمكنه أن يشكل سندا داعما لعملية إعادة بناء سوريا في مرحلة ما بعد نظام الأسد.
كما أن النجاح يتطلب وضع إطار قانوني واضح للحياة السياسية في سوريا، بما يضمن إشراك السوريين في العملية الانتخابية، التي تشكل خطوة هامة نحو بناء الشرعية الدستورية، ولعل المجلس التشريعي المؤقت ليس نهاية المطاف، بل المطلوب هو أن يشكل جسرا نحو المرحلة الدستورية، التي يستطيع المواطن السوري من خلالها ممارسة حقه الانتخابي الكامل في ظل دستور دائم وانتخابات عامة حرة.
لا شك في أن اللجوء إلى إجراء الانتخابات أمر إيجابي بحد ذاته؛ لأنه يظهر رغبة في تنظيم المشهد السياسي، وفتح الآفاق أمام تمثيل السوريين، وبما يدشن نقطة بداية لمأسسة العملية السياسية، التي من المفترض أن تُستكمل بخطوات أكثر عمقا من خلال إقرار دستور جديد، ثم انتخابات عامة وشاملة فيما بعد.
لذلك فإن السلطة الجديدة مطالبة بفتح حوار مجتمعي من أجل التوصل إلى توافقات على ملامح الدولة الجديدة، وبما يحقق إجماعا على كيفية تعاطي الإدارة الحاكمة مع المكونات والأطراف، يُبنى وفق مبدأ المواطنة المتساوية، الذي يعلو فوق كل الولاءات العشائرية والطائفية والإثنية.
الذاكرة التاريخية
تعود أول تجربة برلمانية في سوريا إلى 1919 حين تشكل المؤتمر السوري العام، ومثّل تجربة فريدة من نوعها في منطقة الشرق الأوسط. لكنها لم تستمر طويلا؛ بسبب الانتداب الفرنسي لسوريا 1920، ورغم ذلك، لم تنقطع مطالبة السوريين بالحياة البرلمانية، الأمر الذي دفع سلطات الانتداب إلى الرضوخ لها في 1923، وتشكل المجلس النيابي برئاسة بديع العظم.
ثم استمرت الحياة النيابية، وانتُخب المجلسان النيابيان عامي 1936 و1943، اللذان ترأسهما فارس الخوري، ولعبا دورا أساسيا في مسار استقلال سوريا. ومن هنا نفهم أسباب مهاجمة القوات الفرنسية المجلس النيابي في 29 مايو/أيار 1943.
جرت أول انتخابات بعد عام من جلاء القوات الفرنسية عن سوريا في 1946، ثم عطلت فترة الانقلابات العسكرية الحياة البرلمانية حتى 1954، حيث عادت الحياة البرلمانية من جديد، وخاصة في الفترة ما بين 1954 و1958، التي ازدهرت فيها التعددية الحزبية، لكن كل شيء توقف خلال فترة الوحدة مع مصر.
إعلان
ومع الانفصال عام 1961 عاد المجلس النيابي. وقامت سلطات انقلاب حزب البعث 8 مارس/آذار 1963 بحظر الحياة البرلمانية والحزبية. وحين انقلب حافظ الأسد على رفاقه عام 1970، قام بتغيير اسم البرلمان إلى "مجلس الشعب"، وعيّن أعضاءه، واستخدمه نظام الأسد هيكلا شكليا لتجميل صورته، ووظفه كأداة لتوزيع الحصص والمكافآت على أزلامه والموالين له.
تمر سوريا في المرحلة الراهنة بظروف انتقالية حساسة. وهناك فرصة كي تستعيد برلمانا يمثل كل أطياف ومكونات الشعب السوري، والأمر يتوقف على ما سيحمله المجلس الجديد، الذي ينبغي تغيير اسمه ومضمونه كي يشكل مجلسا نيابيا حقيقيا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق