شهدت البشرية يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 منعطفا تاريخيا فريدا لحظة بلوغ سكانها المليار الثامن. وبعد أن استغرقت رحلة المليار الأخير 12 عاما فقط، بدأت عجلة النمو السكاني العالمي تتباطأ، فمن المتوقع بحسب الأمم المتحدة أن يستغرق الوصول إلى المليار التاسع 15 عاما؛ أي حتى عام 2037 ما يعكس تباطؤا عالميا في معدل النمو السكاني.
وعلى ضوء هذا التراجع، ترسم القارة الأوروبية فصلا جديدا من تاريخها السكاني، حيث عجزت معدلات الخصوبة في شتى أنحاء أوروبا عن بلوغ مستوى الإحلال (مستوى المواليد اللازم لتعويض أعداد الوفيات دون تراجع عدد السكان) البالغ 2.1 مولود لكل امرأة، وهو واقعٌ مستمر منذ عقود.
اقرأ أيضا
list of 2 items end of listففي عام 2023، لم يستقبل الاتحاد الأوروبي سوى 3.67 ملايين مولود جديد، وهو رقم يبدو باهتا حين يُقارن بالماضي، إذ يمثل قرابة نصف عدد المواليد الذين أبصروا النور قبل ستة عقود (في عام 1964 بلغ عدد المواليد الجدد في أوروبا 6.8 مليون طفل). إنه فصل جديد في تاريخ القارة العجوز، حيث انخفض معدل المواليد من 16.4 لكل ألف شخص في عام 1970 إلى 8.2 فقط اليوم، في شهادة صامتة على تحوُّل اجتماعي عميق ومستمر.
ويلاحظ هذا التغير في معدل الخصوبة الإجمالية، فقد هَوَى إلى أدنى مستوياته التاريخية مُسجِّلا 1.38 مولود لكل امرأة في الاتحاد الأوروبي عام 2023، وهو متوسط يخفي وراءه التبايُن الشاسع بين الدول الأعضاء، من 1.06 في مالطا إلى 1.81 في بلغاريا، مما يرسم خريطة تُنذِر بانقلاب ديمغرافي في القارة العجوز بين شرقها وغربها.
وفي خضم هذا المشهد، تبرز ملامح مستقبل ديمغرافي جديد، حيث شكَّل المواليد لأمهات أجنبيات المولد 23% من إجمالي المواليد في الاتحاد الأوروبي عام 2023، وهي نسبة ترتفع في لوكسمبورغ إلى 67% بينما تكاد تتلاشى في بلغاريا وسلوفاكيا (3%).
آسيا تشيخ أيضا.. وزحف صامت نحو أميركا
في قلب العملاق الآسيوي، تدق ساعة ديمغرافية أخرى تنذر بتحول تاريخي على الناحية الأخرى من العالم. ففي الصين، التي طالما كانت رمزا للنمو السكاني، ثمَّة انحسار سكاني غير مسبوق، حيث انخفض مُعدَّل الخصوبة من 2.51 مولود لكل امرأة عام 1990 إلى 1.01 في عام 2024، وهو رقم بعيد من مستوى الإحلال الطبيعي. وتشير التوقعات إلى أن هذا الانكماش سيتسارع، ليتقلص عدد سكانها البالغ 1.4 مليار نسمة إلى 633 مليون بحلول عام 2100، في تراجع يعيد البلاد إلى حجمها السكاني في منتصف القرن الماضي.
إعلان
وتستعد الصين الآن لأكبر انكماش سكاني مطلق في التاريخ بين عامي 2024 و2054، إذ تُودِّع 204 ملايين من أبنائها، في انحسارٍ يفوق بكثير تراجع اليابان (21 مليونا) وروسيا (10 ملايين). وأمام هذا الانحسار، أطلقت بكين حزمة سياسات لإعادة إشعال فتيل الإنجاب.
فمن تخفيف آلام المخاض عبر التوفير الإلزامي للتخدير الجزئي لتسهيل الولادة في المستشفيات التي تضم أكثر من 500 سرير، إلى إزالة العوائق المادية أمام تقنيات التخصيب الصناعي وتغطيتها بالتأمين الصحي. وقد أثمرت هذه الخطوة الأخيرة في بكين وحدها عن تلقي أكثر من 32 ألف مريض العلاج في أول 9 أشهر على تطبيق هذه السياسات، مما يظهر حجم التدخل الحكومي لتحفيز الخصوبة.
لكن خبراء الديمغرافيا ينظرون إلى هذه الإجراءات بعين الشك، مؤكدين أن المشكلة أعمق من مجرد القدرة على الإنجاب. فالأزمة لا تكمن فقط في عقم يصيب 17.5% من البالغين حول العالم في مرحلة ما من حياتهم وفق منظمة الصحة العالمية، بل في عزوف الأجيال الشابة عن فكرة تكوين أسرة أصلا، وهو عزوف تغذيه حواجز هيكلية صلبة، من تكاليف المعيشة الباهظة وصولا إلى انتشار الحروب.
بعيدا عن آسيا، تقف الولايات المتحدة اليوم على أعتاب مستقبل مشابه، فبعد انحدار استمر 15 عاما، انخفض مُعدَّل الخصوبة الإجمالي في أميركا إلى 1.6 طفل لكل امرأة، وهو رقم يقع بوضوح تحت مستوى الإحلال.

ويكمن سر التحول في تغيُّر جذري في قرارات الأجيال الشابة، فبينما يفسر انخفاض معدلات الإنجاب في صفوف المراهقات من 13.1 إلى 12.7 لكل ألف شابة على أنه قصة نجاح لـ"تنظيم الأسرة"، فإن الحقيقة الأعمق هي عزوف النساء تحت سن الثلاثين عن الإنجاب، إما بتأجيله أو التخلي عنه تماما. ورغم زيادة الإنجاب نسبيا بين النساء في أواخر الثلاثينيات من العمر، فإن ذلك لا يعوض التراجع الحاد في الفئات الأصغر سنا.
ويتردد صدى التراجع اليوم في أروقة الجامعات التي تواجه ما يسمى "الهاوية الديمغرافية"، فالأطفال الذين وُلِدوا مع بداية الانحدار عام 2008 يبلغون اليوم 17 عاما ويدقون أبواب التعليم العالي. وتشير التوقعات إلى أن الجامعات ستفقد 100 ألف طالب مُحتمَل العام المقبل، وستتسع الفجوة إلى نصف مليون في غضون ثلاث سنوات، وتقترب من مليون طالب سنويا في غضون عقد.
وهذا النقص لا يهدد المؤسسات التعليمية فحسب، بل يهدد أيضا أنظمة الضمان الاجتماعي ورعاية المسنّين التي تعتمد على مساهمات الأجيال الشابة.
خريف العُمر ومستقبل أقل حروبا
المفارقة أن هذا الانحسار الديمغرافي العالمي قد يُسفر عمَّا يمكن تسميته "سلام الشيخوخة"، وهو سلامٌ تفرضه وطأة الواقع بسبب التباطؤ في النمو الاقتصادي بفعل تناقص القوى العاملة، وارتفاع الالتزامات المالية الهائلة لرعاية المسنّين. وهذا "المأزق المزدوج" سيخلق بيئة تقشُّف تمنع أي قوة كبرى من الانخراط في الحروب.
ولتَصَوُّرِ حجم العبء، سيتعين على اليابان بحلول عام 2040 زيادة إنفاقها السنوي على رعاية المسنين بـ15 ضعفا، وستحتاج ألمانيا إلى إنفاق أكثر من 7 أضعاف، وفرنسا إلى إنفاق أكثر من 5 أضعاف إنفاقها السنوي الحالي.

هنا يكتب مارك هاس، أستاذ العلوم السياسية في جامعة دوكين بمدينة بيتسبرغ، في مقالته المهمة "السلام القادم لكبار السن" المنشورة في مجلة فورين أفيرز، عمَّا يشهده عالمنا من ثورة ديمغرافية صامتة لكنها حاسمة في رسم مستقبل الحروب. فبين عامي 2012 و2023، كان متوسط نسبة المسنّين في الدول البادئة الحروب لا يتجاوز 5%، أي نصف المتوسط العالمي، مما يشير إلى أن خريف العُمر الذي يَحِلّ بالأمم قد يحمل معه بذور سلام غير مُتوقَّع.
إعلان
أول ضحايا هذا التحوُّل الديمغرافي هو الماكينة الاقتصادية التي تموِّل الجيوش، فالشيخوخة تفرض ضغطا مزدوجا: فهي تقلص القوة العاملة المنتجة، وفي الوقت نفسه ترفع فاتورة الإنفاق على رعاية المسنين إلى مستويات فلكية.
فمن المتوقع مثلا أن يتقلَّص عدد العاملين في شرق آسيا بنسبة 24%، وفي أوروبا بنسبة 17%، بحلول عام 2050، بينما يُتوقع أن يصل الإنفاق العام على المسنّين في العديد من الدول المتقدمة إلى حوالي رُبع ناتجها المحلي الإجمالي. وفي الصين وحدها، ستقفز هذه الفاتورة من 4.4% إلى 20% من ناتجها المحلي، مما يضع قادتها أمام خيار حتمي بين "البنادق أو عكازات المشي".
وحتى لو توفر المال، فإن بئر القوة البشرية الذي تستقي منه الجيوش بدأ يجف. بحلول منتصف القرن الحالي، سيفقد شرق آسيا 48 مليون شاب في سن التجنيد (انخفاض بنسبة 42%)، وستفقد أوروبا 8 ملايين (انخفاض بنسبة 17%).
وهذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل واقع تعانيه الجيوش بالفعل. فاليابان، بين عامي 2000 و2021، لم تتمكن في المتوسط من ملء سوى 93% من المواقع المطلوبة في قواتها، في حين تكافح روسيا والصين للعثور على جنود أكفاء، مما يجبرهما على التضحية بالنوعية مقابل العدد، ويجعل خوض الحروب مغامرة باهظة التكلفة.
لكن القوة الدافعة الأعمق نحو "سلام الشيخوخة" تكمن في التحوُّل النفسي والسياسي للمجتمعات الشائخة، إذ تكشف استطلاعات الرأي التي أوردها مارك هاس أن المسنّين هم الأكثر حذرا من استخدام القوة العسكرية. ففي الصين، هم الأقل ميلا لاعتبار الوجود العسكري الأميركي "تهديدا كبيرا".
والأهم من ذلك، أنه في مجتمع مثل المجتمع الصيني، سيُشكِّل الأبناء الوحيدون قرابة نصف المُجنَّدين بحلول عام 2030، ومن ثمَّ قد يتحوَّل الخوف من خسارة جيل بأكمله إلى رادع سياسي قوي. إن شبح أسر "شيدو" (مصطلح يُطلق الأسر الثكالى التي فقدت طفلها الوحيد في الصين)، قد يكون أقوى من أي سلاح في ردع القادة عن إشعال فتيل الحرب.
من هو مارك هاس؟
لذا تستضيف صفحة أبعاد – الجزيرة نت مارك هاس، أستاذ العلوم السياسية بجامعة دوكَين في بيتسبرغ بالولايات المتحدة، وهو قامة أكاديمية بارزة في مجال العلاقات الدولية والدراسات الأمنية. ويتمتع البروفيسور هاس بخبرة بحثية من عمله زميلا باحثا في كبرى المؤسسات الأكاديمية، ومنها معهد أولين للدراسات الإستراتيجية ومركز بِلفور للعلوم والشؤون الدولية بجامعة هارفارد.
وقد تُرجمت كتاباته في عدد من المؤلفات المرجعية الهامة، أبرزها كتابه المرتقب "سلام الشيخوخة: شيخوخة السكان وتراجع الحرب" الصادر عن جامعة أوكسفورد، ويُقدّم فيه تحليلا شاملا لكيفية تأثير شيخوخة السكان في تشكيل القدرات الاقتصادية والعسكرية للدول وتوجيه سياستها الخارجية.
ويستند الكتاب في طرحه على دراسات حالة مُفصَّلة تُظهر كيف أثرت هذه الظاهرة الديمغرافية في قدرات وتوجهات قوى كبرى مثل اليابان والصين والولايات المتحدة وروسيا. كما يخلص إلى نتيجة مهمة، مفادها أن شيخوخة السكان ستكون على الأرجح عاملا حاسما في منع حدوث انتقال للقوة بين الولايات المتحدة والصين.
هنا يرى هاس في حواره مع الجزيرة نت أن شيخوخة السكان، المتمثلة في ارتفاع نسبة المسنّين، تعد متغيرا حاسما يدفع نحو السلام الدولي عبر مسارين متوازيين.

المسار الأول هو تآكل "القدرة" على خوض الحروب، حيث يؤدي انحسار القوى العاملة والشباب في سن التجنيد إلى إضعاف الجيوش، بينما تخلق الأعباء الاقتصادية لرعاية المسنّين أزمة موارد تُجبِر الدول على تقليص إنفاقها العسكري. أما المسار الثاني، فهو تراجع "الرغبة" في الصراع، إذ أثبتت الدراسات أن الأجيال الأكبر سنا بطبيعتها أكثر نفورا من الحروب وأقل دعما للتدخلات العسكرية، ومع تزايد أعدادهم، يصبحون قوة سياسية ضاغطة على القادة لتجنب النزاعات الخارجية.
إعلان
ويشير هاس إلى مفارقة أساسية تفرضها الشيخوخة، فبينما تُعزز السلام على الصعيد الدولي، فإنها تؤجِّج الاضطرابات والاستقطاب على المستوى الداخلي. فالنمو الاقتصادي يتباطأ، وتضطر الحكومات إلى خفض الإنفاق على خدمات حيوية مثل التعليم، ويزداد التفاوت الاجتماعي، مما يخلق بيئة خصبة للسَخَط وصعود الحركات الشعبوية. وتتجلَّى هذه المفارقة في قضية الهجرة، حيث تصبح المجتمعات الأكثر حاجة للمهاجرين لتعويض نقص الأيدي العاملة هي نفسها الأكثر عداء لهم ثقافيا، مدفوعة بقلق المجموعة العرقية المهيمنة من تراجع أعدادها وفقدان هويتها.
على الصعيد الجيوسياسي، يعتقد هاس أن أزمة الشيخوخة ستكون عاملا حاسما في منع نشوب حرب كبرى بين الصين والولايات المتحدة. فالشيخوخة الحادة التي تواجهها الصين، والتي تفوق نظيرتها الأميركية، ستكبح صعودها الاقتصادي والعسكري وتمنعها من تجاوز الهيمنة الأميركية، مما ينزع فتيل أخطر مراحل انتقال القوة عالميا. ونتيجة لهذا التباين الديمغرافي، يتوقع هاس أن تتركز الصراعات المستقبلية بشكل غير متناسب في مناطق العالم التي لا تزال شابة، مثل أجزاء من أفريقيا والشرق الأوسط، التي تمتلك "تضخُّما شبابيا" وتفتقر في المقابل إلى "الكوابح" الديمغرافية التي تدفع المجتمعات المُسِنّة نحو السلام.
نص الحوار
إلى أي مدى يمكن اعتبار شيخوخة السكان متغيرا حاسما في تحديد ميل الدول نحو الحرب أو السلام؟مارك هاس: شيخوخة السكان، ويُقصد بها الزيادة الملحوظة في نسبة من تتجاوز أعمارهم 65 عاما أو ارتفاع متوسط الأعمار في بلدٍ ما؛ أزعم أنها تزيد من احتمالية إحلال السلام الدولي. ويتحقق ذلك عبر مسارين: أولهما أن الشيخوخة تَحُدُّ سلبا من قدرات الدولة، فتُقلِّص من أصول القوة المتاحة للحرب، وثانيهما أنها تُخفِّض من الرغبة في خوض الحروب. وبإمكاني تفصيل هذين المسارين أكثر إن شئت، لكن جوهر الفكرة يكمن في أن الشيخوخة تُغيِّر كلا من القدرة على شن الحرب والرغبة فيها.
ولا يعني هذا أن الدول التي ترتفع فيها نسبة الشيخوخة لن تخوض حروبا على الإطلاق، فروسيا مثلا بلدٌ مُسِنّ وقد أشعلت حربا واسعة النطاق. غير أن الشيخوخة تُقلِّل من احتمالية إقدام الدول على الحروب، وتُضعِف أيضا من فرص انتصارها. ولهذا أعتقد أن الشيخوخة مثلا أعاقت قدرة روسيا على حسم الحرب في أوكرانيا بالسرعة والكفاءة المأمولة من قِبَل قادتها.
في مقالك، تقول إن الأجيال الأكبر سنا هي الأقل دعما للحروب، فكيف يمكن تفسير قرارات الحرب في مجتمعات تسيطر فيها هذه الأجيال على السلطة السياسية والاقتصادية؟
مارك هاس: يرتبط هذا السؤال في اعتقادي بمسألة التفضيلات (على المدى الطويل). فقد أَظْهَرَتْ دراساتٌ عديدة أُجريت عبر أجيال مختلفة وفي بلدان متعددة أن الناس يميلون لأن يصبحوا أكثر معارضة لاستخدام القوة في الخارج كلما تقدموا في السن. ونتيجة لذلك، نجد أن الأجيال الشابة هي الأكثر ميلا لدعم الحروب والمشاركة في النزاعات الدولية أو البدء فيها.
إن معارضة الناس للحروب التي تزداد مع تقدمهم في العمر، وتزايد شيخوخة المجتمعات، تعني أن أعداد المعارضين للحرب داخل البلدان ستزداد باطراد مع مرور الوقت. وهذا بدوره سيُحدِث تغييرا في التفضيلات على مستوى القيادة، وسيفرض مع الوقت ضغطا على القادة ليصبحوا أقل إقداما على بدء الصراعات، خاصة في الديمقراطيات، ولكن في الأنظمة الأكثر استبدادية أيضا، إذ لا يمكن حتى للقادة المستبدين تجاهل السخط الشعبي المحلي.
مع تزايد شيخوخة السكان، تضطر الحكومات إلى تقليص الإنفاق العسكري لصالح الإنفاق الاجتماعي. كيف يمكن لهذه الأزمة في الموارد أن تعيد تشكيل علاقة الدول بالجيوش؟ وهل يمكن أن تخلق هذه الندرة ذاتها أسبابا جديدة للصراع على الموارد مثل الماء والطاقة؟مارك هاس: هذا سؤال جيد، ويتعلَّق بنقطة القدرات في حجتي. فأحد الأسباب التي تُضعِف قدرات المجتمعات المُسِنّة وتجعلها أقل استعدادا للحروب يكمُن في الضغط المتزايد لرفع الإنفاق الحكومي على المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية، الذي سيرتفع بشدة العقود القادمة.
وستجد دول كثيرة نفسها مضطرة إلى تخصيص ما بين 20% و30% من ناتجها المحلي لدعم المتقاعدين وتمويل معاشاتهم ورعايتهم الصحية، مما يؤدي حتما إلى أزمة في الميزانية، لأن الموارد بطبيعتها شحيحة. وعندما تستحوذ فئة إنفاق واحدة، مثل رعاية المسنّين، على حصة ضخمة ومتزايدة من الميزانية، يصبح خفض الإنفاق في المجالات الأخرى أمرا محتملا.
لكن هذا لا يعني أن هذه التخفيضات حتمية فقرارات الإنفاق تبقى في النهاية خيارات سياسية، ويمكن للحكومات والقادة أن يقرروا عدم الإنفاق على المسنّين. ومع ذلك، أعتقد أن الإنفاق على هذه الفئة سيظل هو الخيار الأكثر ترجيحا في معظم الحالات، نظرا للضغط السياسي الهائل الذي يدفع بهذا الاتجاه. ونتيجة لذلك، من المرجح أن يُهَمَّش الإنفاق العسكري ويتقلَّص.
إعلان
لقد أثرتُ نقاطا أخرى، مثل حروب الموارد حول المياه، وهذا يتعلق بجانب "التفضيلات" في نظريتي. للشيخوخة جانب إيجابي يتمثل في أنها تعزز السلام الدولي، وهذا أمر جيد جدا. ولكنها في المقابل قد تحمل نتائج سياسية وخيمة على الصعيد المحلي، إذ أعتقد أنها تزيد من احتمالية حدوث اضطرابات واستقطاب داخلي حاد.
العديد من العوامل التي تؤجج الاحتجاجات تتفاقم بفعل الشيخوخة، مثل ازدياد التفاوت الاجتماعي، وتباطؤ النمو الاقتصادي، وتعرُّض الحكومات لضغوط إنفاق متنافسة، مما يؤدي لخفض ميزانيات التعليم والبنية التحتية، وميل المسنّين إلى أن يكونوا أكثر قابلية للاستقطاب، وتزايد العداء للمهاجرين، حيث تخشى المجموعات العرقية المهيمنة على وجودها مع تقدُّمها في السن وتناقص أعدادها.
عندما تجتمع كل هذه العوامل، فإنها تخلق بيئة خصبة للاضطرابات والسخط والاحتجاجات المحلية. وبالنسبة لقضية موارد المياه تحديدا فأعتقد أن تغير المناخ سيزيد من حدتها أيضا. ولكن رغم هذه الأخبار السيئة على الصعيد المحلي، يبقى الخبر السار هو أن الشيخوخة، في رأيي، تحفز السلام الدولي. فهذه المشاكل الداخلية ستجبر الدول على الأرجح على تركيز مواردها واهتمامها نحو الداخل، بعيدا عن الحروب الخارجية.
قد يتساءل البعض عن "الحرب التحويلية – التشتيتية" (Diversionary War)، وإمكانية أن تلجأ حكومة ما لإشعال صراع خارجي لصرف الانتباه عن مشاكلها الداخلية. لكنني لا أرى هذا السيناريو مُرجَّحا، لسبب رئيسي وهو أن المجتمعات المُسِنّة تميل بطبيعتها لدعم السلام. فإذا حاولت حكومة ما الهروب من مشاكلها عبر القيام بأمرٍ ترفضه غالبية شعبها، فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى تأجيج الاضطرابات الداخلية بدلا من تهدئتها.

مارك هاس: تقوم الحُجَّة على أن المجتمعات المُسِنّة، أي تلك التي تتميز بارتفاع متوسط العمر أو بوجود نسبة عالية ممن تبلغ أعمارهم 65 عاما فأكثر، هي أقل ميلا إلى خوض الحروب بشكل ملحوظ. فعلى سبيل المثال، لقد استشهدت في مقالتي بدراسات تُظهر أن عدد النزاعات بين الدول قد زاد بشدة في العقد الماضي، لكن الغالبية العظمى من البلدان المنخرطة في هذه الحروب هي بلدان شابة جدا. ورغم أنني بحاجة للتحقق من الأرقام الدقيقة، فإن متوسط العمر ونسبة المسنّين في تلك البلدان منخفضان، وأقل بكثير من المتوسط العالمي.
لذلك، أعتقد أن المجتمعات التي ترتفع فيها نسبة الشباب تشكل مصدرا مستقلا للصراع. فالعديد من الدراسات التي تناولت ظاهرة "التضخُّم الشبابي" (Youth Bulge)، التي تعني وجود نسبة عالية من الشباب الذكور بين السكان البالغين، تعتبرها مصدرا للعنف، بما في ذلك العنف الدولي. وعلى النقيض، فإن المجتمعات المُسِنّة لا تفتقر إلى هذا التضخُّم السكاني فحسب، بل تمتلك أيضا "كوابح" ذاتية ومصادر مستقلة تدفع نحو السلام، مما يجعلها أكثر ميلا لتجنُّب الحرب. ولهذا السبب، نجد أن الصراعات في العالم، رغم كثرتها، تتركز بشكل غير متناسب في المجتمعات الشابة.
لقد ذكرت في مقالتك أن المجتمعات المُسِنّة لا تستطيع توفير جنود بقدر المجتمعات الشابة. وفي الوقت ذاته، إذا قارنّا عدد سكان العالم اليوم، البالغ 8 مليارات نسمة، بعدد السكان في الحربين العالميتين، فسنجد أن العدد كان أقل بكثير بين عامي 1914 و1945، ورغم ذلك شهدنا حروبا كبرى. كيف تفسر ذلك؟مارك هاس: نعم، يكمن الجواب في أن الأمر لا يتعلق بالأعداد المطلقة للجنود فحسب. أنت محق، فعدد الشباب في سن 18 عاما اليوم يفوق عددهم في عصر نابليون، وهذا طبيعي لأن عدد سكان العالم أكبر بكثير. لذا، فالمسألة لا تتعلق بالعدد الإجمالي للعمال أو للمسنّين أو للجنود المحتملين، بل تتعلق بـ"نسبتهم" من الهيكل السكاني للمجتمع.
فمثلا، قد يكون عدد الأشخاص فوق سن 65 كبيرا في كل المجتمعات، لكن العبء الحقيقي يظهر عندما يشكلون "نسبة عالية" من إجمالي السكان. وينطبق المبدأ نفسه على الجنود، فالعدد المطلق ليس هو المقياس الوحيد، بل "خط الاتجاه" (Trend line) هو الأهم. خذ روسيا كمثال، لقد بلغ عدد سكانها ممن هم في ذروة العمر العسكري أقصاه قبل عقد من الزمان تقريبا، ومنذ ذلك الحين وهم يواجهون صعوبة متزايدة في تلبية احتياجاتهم العسكرية لأن الاتجاه الديمغرافي يعمل ضدهم. كما أن "النسبة المئوية" مهمة للغاية، لأنها تحدد حجم القوى العاملة المتاحة التي يمكن تحويلها للمجهود الحربي. لذا، يجب النظر إلى الأمرين معا: الأعداد المطلقة والنسب المئوية.
في ظل الصعوبات المتزايدة التي تواجهها الدول المسنة في التجنيد وتوفير الموارد لجيوشها، كيف سيؤثر ذلك على عمل هذه الجيوش؟ وهل هناك بدائل مطروحة على الطاولة؟مارك هاس: يُمكن إيجاد حلول وبدائل لمشكلة تناقص أعداد السكان في سن الخدمة العسكرية، لكن الإجابة تظل "نعم، مع وجود مواءمات دائما". ولتوضيح ذلك، تلجأ بعض المجتمعات التي تواجه هذا التحدي إلى عدة طرق للتغلب على النقص العددي، منها تخفيف المعايير العسكرية، ويتم ذلك عبر السماح لأشخاص أكبر سنا، أو أقل من حيث اللياقة البدنية أو القدرة الذهنية، بالانضمام للجيش. ولكن هذه المواءمة تأتي على حساب الجودة، فمقابل زيادة الكمية تنخفض الكفاءة.
وهناك الاستعانة بالمرتزقة، إذ يمكن استئجار جنود من بلدان أخرى، لكن الجيوش التي يقودها المرتزقة غالبا ما تكون أقل فاعلية عسكريا.
وأخيرا هناك الاعتماد على التكنولوجيا، حيث يُمكن استبدال العنصر البشري بالتكنولوجيا، كما شهدنا في حرب أوكرانيا من استخدام المُسيَّرات والأسلحة الذاتية التشغيل، مما يُقلِّل الحاجة إلى أعداد كبيرة من الجنود. وقد ساعد هذا الأمر أوكرانيا بشدة في تعويض نقص القوى البشرية لديها.
لكن حجتي الأساسية تركز أكثر على الحروب العدوانية، أي عندما تهاجم دولة أخرى بهدف السيطرة على أراضيها. هذا النوع من العمليات العسكرية لا يزال يتطلب عددا كثيفا من الجنود في معظم الحالات. ففرض السيطرة على أراضي العدو يستلزم القدرة على شن حروب لمكافحة التمرُّد، وهذا النوع من الحروب ما زال يعتمد على وجود "جنود على الأرض". وروسيا نفسها تدرك هذه الحقيقة اليوم، فرغم تفوُّقها الهائل في القوى البشرية على أوكرانيا، فإنها تواجه صعوبة في إيجاد عدد كافٍ من الجنود ذوي الكفاءة لتنفيذ مهامها الحربية.
خلاصة القول، توجد بالفعل بدائل متاحة، لكن لا يخلو أي منها من مقايضات تضعف القدرة القتالية في نهاية المطاف. وكما ذكرت، يزداد الأمر صعوبة بالأخص في الحروب الهجومية التي تتطلب أعدادا كبيرة من الجنود، على عكس الحروب الدفاعية. ولهذا السبب، فإن احتمالية نشوب هذا النوع من الحروب العدوانية عرضة أكثر للتراجع والانخفاض.
يُنظر إلى الثورات التكنولوجية، من الذكاء الاصطناعي إلى الروبوتات المقاتلة، على أنها الحل المحتمل للتحديات الاقتصادية والعسكرية التي تفرضها شيخوخة السكان. ما رأيك في هذا الطرح؟مارك هاس: نعم يُمكن القول إن التكنولوجيا قد تكون بديلا محتملا لمواجهة تأثير الشيخوخة، سواء في المجال العسكري أو الاقتصادي. ورغم أن هذا الطرح قد يبدو صحيحا، فإن ردي عليه هو أن الشيخوخة بحد ذاتها تخلق عوائق كبيرة لم تكن لتوجد لولاها، وهي عوائق لا تواجهها المجتمعات الشابة.
على سبيل المثال، يرى الكثيرون في الذكاء الاصطناعي وسيلة محتملة لتعزيز الإنتاجية في عالم يزداد شيخوخة، حيث تعاني الدول المُسِنّة من نقص كبير في الأيدي العاملة. ومنطقهم أنه إذا زادت الإنتاجية وأصبح بالإمكان تحقيق ناتج أكبر بالمدخلات نفسها، ستُحَل المشكلة. ولكن المعضلة الحقيقية هي أن الشيخوخة ذاتها تَحُدّ من فعالية التكنولوجيا.
ولتوضيح هذه الفكرة، اسمح لي أن أقدم مثالا فصَّلته في كتابي ومقالتي. يتوقع الاقتصاديون أن يكون تأثير الذكاء الاصطناعي في الإنتاجية مشابها لتأثير ثورة تكنولوجيا المعلومات في التسعينيات.
بناء على ذلك، درست حالة اليابان، التي كانت تشيخ بسرعة آنذاك. لاحظت أنه على النقيض من كون ثورة تكنولوجيا المعلومات عزَّزت الإنتاجية في الدول الشابة مثل الولايات المتحدة، فإن إنتاجية اليابان تباطأت بشكل ملحوظ، بعد أن كانت تسجل ارتفاعا كبيرا في السبعينيات والثمانينيات، وهذا أمر يثير الاستغراب.
أزعم أن سبب هذا التباطؤ هو تزامن تسارع وتيرة الشيخوخة في اليابان مع ثورة تكنولوجيا المعلومات. فإحدى أكبر العقبات التي واجهت إنتاجيتها كانت مرتبطة بالفئة العمرية بين 40 و49 عاما، التي تُعَد الفئة الأكثر إنتاجية في معظم المجتمعات.

وعندما تنمو هذه الفئة، ترتفع الإنتاجية، وعندما تتراجع، تتباطأ الإنتاجية بشكل حقيقي. والمشكلة التي واجهتها اليابان، رغم ثورة التكنولوجيا، هي أن نسبة العاملين في هذه الفئة العمرية كانت في حالة انهيار.
لذا، تتلخص وجهة نظري في أن التقدم التكنولوجي، مثل الذكاء الاصطناعي، يمكنه أن يقدم المساعدة، لكنه عندما يُطبَّق في سياق مجتمع مُتقدم في السن، فمن غير المرجح أن تكون مساعدته بالقدر نفسه الذي يُقدمه في المجتمعات الشابة. سوف يساعد بالتأكيد، لكنه لن يكون علاجا شاملا للمشكلة.
يعتبر الكثيرون أن مرحلة انتقال القوة بين الولايات المتحدة بوصفها قوة مهيمنة والصين بوصفها قوة صاعدة من أخطر مراحل التاريخ، وأنها غالبا ما تقود إلى الحرب. لكن كيف يمكن لعامل ديمغرافي فريد، مثل أزمة الشيخوخة الحادة في الصين أن يؤثر على هذا المسار؟مارك هاس: هذا سؤال رائع وقد كرَّست الكثير من الصفحات لهذا الموضوع في الكتاب، أَرى أن المجتمعات المُسِنّة تميل بطبيعتها إلى تعزيز دوافع السلام، وهي حجة أساسية أفردت لها مساحة واسعة في كتابي.
ورغم أن هذا التوجه ليس حتميا، فإنه يزيد من احتمالية حدوث السلام. وفي هذا السياق، يبرز مصدر إضافي ومستقل للسلام بين الولايات المتحدة والصين، يتمثل في أن أزمة الشيخوخة في الصين هي أسوأ بكثير من نظيرتها في الولايات المتحدة، مما يؤدي في اعتقادي إلى توقُّف صعود القوة الصينية.
يرى العديد من خبراء العلاقات الدولية أن من أخطر المراحل في التاريخ تلك التي تشهد محاولة قوة صاعدة (الصين حاليا) تجاوز القوة المهيمنة عالميا (الولايات المتحدة)، فعندما يبدو أن القوة الصاعدة على وشك التفوق على القائمة، ترتفع احتمالية نشوب حرب بينهما بشدة. ولكن ستمنع الشيخوخة، على الأرجح، الصين من تجاوز مكانة الولايات المتحدة المهيمنة، وهذا هو الخبر السار والداعم لفكرة السلام بينهما.
ففي حين أن التفوُّق الأميركي في القدرات لا يزال كبيرا، فإن الشيخوخة ستعيق بشدة صعود القوة الصينية. وستجد الصين نفسها في وضعٍ فريد من نوعه، فهي أول قوة صاعدة في التاريخ تواجه أزمة شيخوخة حادة أثناء مرحلة صعودها. فكل القوى الصاعدة سابقا كانت تتمتع بتركيبة سكانية شابة، وهو ما لا ينطبق على الصين.
إن انهيار عدد سكانها ممن هم في سن العمل، والزيادة الهائلة في أعداد من هم فوق 65 عاما، وتقلُّص الفئة العمرية الأكثر إنتاجية، كلها عوامل تجعل من الصعب على الصين تجاوز التفوق الأميركي في الثروة، ليس فقط في الناتج المحلي الإجمالي، بل وكذلك في نصيب الفرد منه.
والواقع أن الفجوة الاقتصادية بين البلدين، بعد أن كانت تتقلص لصالح الصين، قد عادت لتتسع مؤخرا لصالح أميركا. فعلى مدى السنوات الخمس الماضية تقريبا، يتزايد التقدم الأميركي باطراد. وأزعم أن بدء التناقص السكاني في الصين ، إضافة إلى سائر مؤشرات الشيخوخة الأخرى، هي سبب رئيسي وراء هذا التحول.

مارك هاس: يُعَد السلام الدولي وزيادة احتماليته نتيجة إيجابية للشيخوخة بكل تأكيد. إلا أن الجانب السلبي لها، كما ذكرتُ سابقا، يتمثل في تأثيرها السلبي في السياسة الداخلية. إذ تصبح الشيخوخة مصدرا للاستقطاب والاضطرابات، خاصة مع تباطؤ النمو الاقتصادي وتخفيض الحكومات للإنفاق على قطاعات حيوية مثل التعليم والبنية التحتية.
ونحن نشهد بالفعل في المجتمعات المُسِنّة صعودا للجماعات والقادة الشعبويين المناهضين للمهاجرين. ورغم وجود أسباب متعددة لهذه الظاهرة، أعتقد أن الشيخوخة عامل رئيسي فيها. فعندما تبدأ المجموعة العرقية المهيمنة في بلد ما التقدم في السن والتناقص عدديا، يميل أفرادها لإظهار عدائية أكبر اتجاه المهاجرين، وخصوصا أولئك الذين لا ينتمون لنفس الهوية، مدفوعين بالقلق من تغيُّر الأسس الثقافية لبلدهم.
لذلك، تتغير القيم المحلية وما يمكن وصفه بالأيديولوجيا السائدة بشكل كبير. ونحن نرى استقطابا مجتمعيا حادا، تبرز فيه الأحزاب المناهضة للمهاجرين لاعبا أساسيا، وهنا تظهر مفارقة واضحة للشيخوخة، فالمجتمعات المُسِنّة التي تعاني من انهيار في أعداد سكانها الذين هم في سن العمل هي في أمس الحاجة للمهاجرين لتعزيز نموها الاقتصادي، ولكنها في الوقت ذاته، تصبح الأكثر عداء للهجرة بسبب رد الفعل الثقافي العنيف ضد الوافدين.
بالنظر إلى أن الشرق الأوسط مليء بالصراعات حاليا، كيف يمكن لاتجاه ديمغرافي صامت ومتسارع، وهو شيخوخة السكان أن يعيد تشكيل مستقبل هذه المنطقة؟مارك هاس: تبرز هنا مفارقة واضحة، فبينما أتحدث عن تصاعد فرص السلام، تتزايد الحروب في أجزاء كثيرة من العالم، ومنها الشرق الأوسط بالطبع. ومع ذلك، أرى أن احتمالية تحقيق سلام أكبر ستتسارع في العقود القادمة. فرغم أن المشاكل المحلية ستشتد على الأرجح، وقد تتفاقم بفعل أزمات المياه وتغيُّر المناخ، فإن العوامل الدافعة للسلام، المتمثلة في تراجع القدرات والرغبة في الحرب، ستكون حاضرة بقوة.
تدخل معظم دول الشرق الأوسط مرحلة الشيخوخة السكانية بوتيرة سريعة. ويرجع ذلك لسببين رئيسيين، أولهما انخفاض الخصوبة، حيث شهدت معدلات الخصوبة، أي متوسط عدد المواليد لكل امرأة، انخفاضا حادا في جميع أنحاء شمال أفريقيا والشرق الأوسط طوال العشرين عاما الماضية. وثانيها زيادة متوسط العمر المتوقع، حيث ارتفع متوسط أعمار الأفراد، مما يساهم أيضا في زيادة نسبة المسنّين في المجتمع.
والمثال البارز هنا إيران، فهي تسير على طريق الشيخوخة بوتيرة قد تتجاوز سرعة الصين في العقود المقبلة. وبسبب الانخفاض الحاد في معدلات الخصوبة لديها، من المتوقع أن تشيخ إيران في العقدين أو العقود الثلاثة القادمة بشكل أسرع حتى من الصين، التي تعتبر بالفعل أسرع من دول كبرى مثل اليابان وفرنسا وألمانيا. وأتوقع أن تُسبِّب هذه التحولات الديمغرافية اضطرابات داخلية كبيرة.
أنا أعتقد أن الاضطرابات والمشاكل المحلية ستجبر الدول على تركيز اهتمامها ومواردها على الشأن الداخلي، مما يقلل من احتمالية خوض حروب خارجية.
ولا يعني ذلك أن الحرب ستصبح مستحيلة أو أن السلام قادم لا محالة. ولكن عندما تجتمع عوامل تراجُع القدرات مع تزايد الرغبة في السلام، وتصل المجتمعات إلى مراحل متقدمة من الشيخوخة، فإن احتمالية إقدام الدول على بدء حروب كبرى تتضاءل بشكل كبير.
0 تعليق