تعيش تونس منذ نحو أسبوع تقريبا، على وقع جدل صاخب بشأن المبادرة البرلمانية الأميركية، "لاستعادة الديمقراطية في تونس".
المبادرة تقدم بها نائبان عن الحزبين، الجمهوري، جو.ولسون، والديمقراطي، جي.يلسون كرو، إلى رئاسة مجلس النواب الأميركي، في انتظار إحالتها إلى لجنتي العلاقات الخارجية والقضائية لمناقشتها، تمهيدا لإقرارها وعرضها على جلسة عامة، قبل إحالتها لاحقا إلى مجلس الشيوخ، ومن ثم، وضعها على مكتب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من أجل التوقيع عليها.
المبادرة تتضمن مسائل خطيرة. فهي انطلقت من أن حكومة الرئيس التونسي، قيس سعيد، "حكومة استبدادية، تنتهك حقوق الإنسان، وتقوم بأعمال مخالفة للدستور"، وهي تدعو- تبعا لذلك- إلى استعادة الديمقراطية التونسية، وإجراء انتخابات وفقا لدستور 2014، الذي ألغاه الرئيس سعيد، واستبدله بدستور خطه بيديه.
وإذا ما تم إقرار مشروع القرار هذا، ستخضع تونس لعقوبات تستمر لـ 4 سنوات، تتضمن "تدابير قاسية"، كما وصفتها قناة "فرنسا 24″، تشمل بالأساس، عقوبات صارمة، وإجراءات دقيقة ضاغطة، من بينها:
قطع المساعدات عن المؤسسة العسكرية، والأجهزة المتورطة في عملية "الانتكاس الديمقراطي"، كما يسميها النائبان، وفي شريط الانتهاكات المسجلة في مجال حقوق الإنسان. حجز الممتلكات والأرصدة التونسية الموجودة بالولايات المتحدة الأميركية. رفض تأشيرات الدخول للولايات المتحدة الأميركية، بالنسبة للمسؤولين المتورطين في الانتهاكات الحقوقية، أو ما يسميه مشروع القانون "المسار الاستبدادي"، منذ انقلاب يوليو/تموز 2021، الذي قاده الرئيس قيس سعيد، مدعوما من مؤسسات الدولة، وما يعرف بالدولة العميقة: (الجيش، والأمن، والإدارة البيروقراطية…).وبالتأكيد- مثلما يشير إلى ذلك خبراء ودبلوماسيون- فإن قرارا من هذا القبيل، قد يسري لاحقا إلى بلدان أخرى، ستـنحو باتجاه المسار الأميركي، خصوصا بالنسبة للدول الأوروبية. وهو ما يفسر خطورة القرار الأميركي واستتباعاته على مستقبل العلاقات الثنائية، التي احتفل البلدان مؤخرا بمرور 228 عاما على تأسيسها (1797).
إعلان
تطورات شديدة الأهمية
يأتي مشروع القرار الأميركي، الذي عرضته مختلف القنوات الأميركية، قبل العربية، مع تطورات لافتة، شهدتها العلاقات التونسية الأميركية، خلال الأسابيع القليلة الماضية:
فقد قام كبير مستشاري الرئيس الأميركي للشؤون الأفريقية والعربية، مسعد بولس، بزيارة إلى تونس يوليو/تموز الماضي، التقى خلالها، الرئيس التونسي، وحثه- وفق بعض المعلومات الموثوقة- علىاستئناف الديمقراطية والمؤسسات المنتخبة في تونس، ودعاه إلى تسليم السلطة للشباب.
غير أن الرئيس قيس سعيد، أبدى امتعاضه من مطلب المسؤول الأميركي، ونشرت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية،
بيانا، أوضحت فيه، أن "تونس شددت على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة"، وأنها شرعت في "إعادة صياغة تحالفاتها الدولية"، في إشارة إلى إيران، وروسيا، والصين.
وكانت الرسالة التي أغضبت المسؤول الأميركي، تلك الصور التي عرضها عليه قيس سعيد بشأن الفتك والتجويع بأطفال غزة، في إشارة إلى أن الدعم الأميركي للإبادة الجماعية في غزة، لا يجعل الولايات
المتحدة، داعية ديمقراطية بين دول العالم، أو حريصة على حقوق الإنسان.
في المقابل، لا شيء تسرب عن رد الرئيس التونسي على "إلحاح" ميلوني، التي بدت كما لو أنها مديرة تنفيذية لدى إدارة الرئيس الأميركي، كما يصفها سياسيون تونسيون.
الشيء الوحيد الذي التقطه التونسيون، وضمن النخب السياسية تحديدا، بعد هذه التطورات، هو أن مياها متجمدة في مستوى العلاقات الأميركية التونسية، بدأت تدب فيها الحياة من جديد.
يوم 28 أغسطس /آب المنقضي، أي بعيد أيام قليلة من إطلاق مبادرة النائبين الأميركيين، استقبل وزير الخارجية في تونس، محمد علي النفطي، وفدا من الكونغرس الأميركي، لا يبدو أنه جاء للحديث عنالاستثمارات والتعاون الثنائي- كما حاولت أن تقنعنا الخارجية التونسية – لا سيما أننا بصدد أجواء ملغومة، تكتنفها سحابة داكنة من أزمة ثقة تسللت إلى علاقات الطرفين.
فكيف يمكن الحديث عن استثمارات، والكونغرس يتهيأ لمناقشة مشروع قرار لفرض عقوبات قاسية على تونس، ومؤسستها العسكرية، ومسؤوليها "المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان"، وفق ما جاء في نص القرار/ المشروع"؟!
لا شك أن ذلك من نوع تلك البيانات "الجاهزة" التي تصدرها بعض الحكومات العربية، في إطار التعتيم الإعلامي المتعمد، وربما لتضليل الرأي العام، بداعي أن ذلك من الأمن القومي للدول.
لقد أعاد وفد الكونغرس الأميركي على مسامع رئيس الدبلوماسية التونسية، المطالب الأميركية الجديدة، في مسعى لإقناع السلطة بالعمل على تجنب تلك العقوبات التي بدأت "الماكينة الأميركية"، في الاشتغال عليها.
إعلان
ليس بمقدور وزير الخارجية، الرد على هذا الوفد، فالدبلوماسية التونسية، يتحكم الرئيس سعيد، منذ توليه كافة السلطات بعد انقلاب يوليو/تموز، في اتجاهها وبوصلتها.
ومع أنه رفض مقابلة الوفد البرلماني الأميركي، فإنه حرص على الإجابة على الجانب الأميركي، من الجزائر بالذات، حيث كان يشارك في مؤتمر حول التجارة البينية الأفريقية، عندما أشار في مداخلته المتلفزة، إلى "تسلل قوى ما زالت تحن للماضي البغيض.. جهرا وفي الخفاء؛ لإجهاض كل المحاولات"، الرامية إلى تحقيق السيادة على المصالح والثروات.
وبدا ذلك رسالة "مضمونة الوصول" للأميركان، والغرب عموما: أن أفريقيا، ومن بينها تونس، لن تقبل بما كان يسميه الرئيس الراحل، زين العابدين بن علي، "دروسا من أحد".
ومن هنا التقطت أبواق النظام، هذه التعبيرات، لكي تصنف الموقف الأميركي ضمن خانة "التآمر على تونس"، لا بل على قيس سعيد، بالنظر إلى مواقفه من القضية الفلسطينية، على الرغم من أن قانون تجريم التطبيع ضد الكيان الصهيوني، يقبع منذ فترة طويلة في أدراج لجنة برلمانية، بعد أن طلب الرئيس التونسي، عدم اعتماده، لما في ذلك من مساس بالأمن والمصالح القومية لتونس، وفق ما نقل عنه رئيس البرلمان، ما جعله يدخل طي النسيان، إلى أجل غير مسمى.
أما المعطى الأخير في التطورات الحاصلة، منذ زيارة مسعد بولس إلى تونس، فيتمثل في تعيين الولايات المتحدة، سفيرا جديدا في تونس، وهو بيل بازي، الذي يُنتظر قدومه إلى البلاد في غضون الفترة المقبلة.وهذا يعني ضمنيا، أن الولايات المتحدة، لا تهدف إلى قطيعة مع النظام التونسي، وإنما "بناء شراكة تقوم على التفاهم ودعم التعاون الثنائي ومواجهة الإرهاب غير المتكافئ.."، مثلما جاء في شهادة السفير المعين، أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، ونالت -على ما يبدو- استحسانها.
بمعنى آخر، ستحرص الولايات المتحدة، على "استعادة الديمقراطية التونسية"، من خلال الاختراق الدبلوماسي والسياسي، تماما مثلما فعلت مع بن علي الذي رفض عام 2009 "نصائح" كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية، عندما طالبته بفتح حوار وطني، وإطلاق سراح المساجين السياسيين، وتمكين المعارضة الإسلامية من منابر إعلامية، وإجراء انتخابات شفافة وديمقراطية لتحقيق الانتقال الديمقراطي في البلاد، مقابل دعم مالي خيالي للموازنة التونسية، للخروج من عنق الأزمة الاقتصادية آنذاك.
غير أن الرئيس الراحل، رفض ذلك، فكان أن خرج من الحكم ومن البلاد، بشكل لم يتصوره حتى بين السيناريوهات الأكثر هوليودية.
وكان تصفيق أعضاء الكونغرس الأميركي، وهم يتابعون تحليق طائرة بن علي بالاتجاه خارج تونس، دليلا قاطعا على أن السيناريو الأميركي في تونس، نجح، فيما سوف يعرف لاحقا بـ "ثورة الياسمين"، التي دحرجت من ورائها، دولا عديدة في المنطقة، تحت مسمى "ثورات الربيع العربي".
هل تكون زيارة مسعد بولس، كبير مستشاري ترامب، شبيهة بزيارة كوندوليزا رايس، خصوصا وهي تستبطن ذات الأهداف والأجندات، وهي الديمقراطية والكف عن الانتهاكات الحقوقية؟ ربما هو التاريخ يستعاد في شكل مأساة، كما كان يقول ماركس.
أميركا دينامو الوضع التونسي
لم تكن الولايات المتحدة، بعيدة عن الشأن التونسي منذ استقلال البلاد 1956.. فقد رحبت بالمحامي، الرئيس الحبيب بورقيبة، ودعمته، ماليا وعسكريا وسياسيا ودبلوماسيا، وظلت تسانده في كل الأزمات التي اعترضت حكمه، واستقبلته واشنطن مرتين: الأولى عند حكم الرئيس جون كينيدي، والثانية في عهد الرئيس ريغان.
وعندما أيقنت أن شيخوخته بدأت تلحق أضرارا بالبلاد، التي بدأت تشهد تطورات ديمغرافية وسياسية لافتة، نهاية الثمانينيات، دفعت بالرئيس الشاب، زين العابدين بن علي، للرئاسة، ودعمت انقلابه بمساعدة إيطالية واضحة، وفي غفلة من الفرنسيين، وسكتت طوال ما يربو على 23 سنة من حكمه، على مجازره المتعلقة بحقوق الإنسان، والبطش بمعارضيه، خصوصا من الإسلاميين، وخنقه حرية الإعلام والتعبير.. ولم تتحرك ضده لإسقاطه، إلا عندما حاول أن "يلوي العصا في يديها"، كما يقول المثل الشعبي التونسي.
إعلان
رافقت الولايات المتحدة، الحكم الجديد إبان ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، مساندة "الترويكا" الحاكمة بقيادة حركة النهضة (ذات المرجعية الإسلامية)، لكنها عملت على إضعافها منذ أحداث الهجوم على السفارة الأميركية في تونس سبتمبر/أيلول 2012، فشجعت معارضيها، وفرضت "حوارا وطنيا"، كان بوابة لخروج الإسلاميين من الحكم، وصعود "المنظومة القديمة"، بقيادة الراحل الباجي قايد السبسي إلى الرئاسة، قبل أن تفرض موازين القوى، التقاءً براغماتيا بين الطرفين، استمر بأشكال مختلفة حتى 2019، تاريخ الانتخابات الرئاسية، التي جاءت بالرئيس الحالي، قيس سعيد من خارج الصندوق.
واللافت، أنه عندما قرر الرجل الانقلاب على كامل مسار الانتقال الديمقراطي، لم يجد معارضة أميركية تذكر، عدا بعض التصريحات الخجولة، فصمتت إدارة الرئيس بايدن، واستمر ترامب على نفس الوتيرة، رغم أن الرجل أغلق البرلمان، وألغى الدستور التونسي، الذي أقسم عليه، وزج ببرلمانيين وسياسيين وصحفيين ومدونين ورجال أعمال في السجون بتهمة "التآمر"، والمساس برئيس الدولة، ونصب محاكمات سياسية، يصفها المحامون بـ "الجائرة"، ويقول عنها حقوقيون في الداخل والخارج، إنها "مهزلة".
كما جعل نشاط الأحزاب "في خبر كان"، ووضع الحريات "بين قوسين"، وأحال ما يسمى "الأجسام الوسيطة"، على المعاش، بما جعل تونس، أشبه اليوم بـ "الأرض الموات" من الناحية السياسية والفكرية والإعلامية.
وفي كل ذلك، كانت الإدارة الأميركية، تعقد مع الجانب التونسي اتفاقيات عسكرية وطاقيّة، غير مبالية بما تسميه اليوم "انتهاكات حقوقية".
فهل يكون للمسعى الأميركي من أجل الديمقراطية من معنى، بعد أن أصيبت النخب التونسية بذهول وأزمة ثقة في الدور الأميركي، وعلاقته بالحقوق والحريات والديمقراطية؟
من سيصدق اليوم هذا الجهد الأميركي المحموم، لاستعادة الانتقال الديمقراطي في البلاد؟ كيف يمكن للولايات المتحدة أن تقنع التونسيين بوجهين متناقضين:
وجه يدعو للديمقراطية، ويحرص على استعادتها، وينتقد انتهاكات حقوق الإنسان، ويعد القرارات لفرض عقوبات على حكومة الرئيس قيس سعيد. ووجه ثانٍ، ملطخ بدماء الفلسطينيين في غزة، بفضل الدعم العسكري الأميركي للكيان الصهيوني، والصمت المريب إزاء منع الغزيين من الدواء والطعام والمساعدات الإنسانية، ما أعاد الإنسانية إلى مظاهر قرون خلت من المجاعة والموت؛ بسبب فقدان الطعام؟ومع أن هذا التناقض صارخ، وصورة الولايات المتحدة، باتت اليوم، في أسوأ مظاهرها، وأبشع تعبيراتها، في الذهنية التونسية، التي ارتبطت بالقضية الفلسطينية منذ بداياتها الأولى، إلا أن واشنطن ستمضي في اتجاه تغيير الوضع في تونس، ولن تتوقف عن مساعيها، إلا إذا لمست اتجاها رسميا للدخول في مسار حقيقي وصادق لتجاوز الشعبوية الراهنة، والانطلاق نحو استئناف جدي، لقطار الانتقال الديمقراطي، المعطل منذ 25 يوليو/تموز 2021.
ليس أمام النظام التونسي، خيارات كثيرة اليوم.. والوقت في تقديرنا، ليس لصالحه.. والخطوة إلى الخلف، أفضل اليوم من أي خطوات إلى الأمام في الوقت الضائع.
تونس تتجه تدريجيا نحو أفق أشد غموضا مما هي عليه الآن، إذا استمر نظام الرئيس قيس سعيد في تعنته، ورفع شعار "التحرير الوطني" الكامل، بلا معنى أو مضمون، والتشدق بـ "السيادة الوطنية"، ضمن مفهوم فضفاض، لا يوفر للتونسيين قوتا، ولا يصوغ تحالفات مثمرة، ولا يحقق استقلالا للقرار الوطني، فيما نصف النخب والطبقة السياسية في السجون والمنافي، وما تبقى منها خائف ومرتعد من سجن محتمل، ما دام أسهل الطرق في تونس اليوم، الطريق إلى السجن.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق