عاجل

رجل بريطاني قال ما يؤمن به فدفع الثمن باهظًا - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

مثّل صعود جيريمي كوربن إلى زعامة حزب العمال 2015 لحظة فارقة في تاريخ الحزب، إذ بدا وكأنه يحيي إرث "اليسار الجديد" الذي قاده الوزير والبرلماني والقيادي العمالي البارز توني بن (3 أبريل/نيسان 1925 – 14 مارس/آذار 2014) في السبعينيات والثمانينيات.

غير أن هذا التشابه يخفي تباينات عميقة في السياقات الاجتماعية والتنظيمية والجيلية بين التجربتين. فتيار "بن" نشأ من قلب الحزب استجابة لإخفاقاته في الحكم، بينما جاء تيار كوربن بتحالف هجين ضم قدامى نشطاء اليسار مع أجيال جديدة تأثرت بالحركات الاجتماعية الأفقية- التي ترفض التسلسل الهرمي التقليدي، وتقوم بدلا من ذلك على المساواة بين المشاركين، واتخاذ القرار عبر التوافق الجماعي، بعيدا عن القيادة المركزية- والمناهضة للتقشف.

ويهدف هذا المقال إلى تتبع مسارات الاستمرارية والتحول في إستراتيجية وتكتيكات اليسار العمالي من تجربة بن إلى تجربة كوربن ومجموعة مومنتوم (الزخم)، عبر تحليل الخلفيات النظرية والمجتمعية ومفارقات العمل داخل مؤسسة حزبية تقليدية.

اليسار العمالي الجديد: الجذور الفكرية والتاريخية

أفرزت تحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية في بريطانيا موجات من التسييس الطبقي والنسوي والعرقي، مهدت الطريق لظهور يسار جديد داخل حزب العمال بقيادة توني بن.

ومثل هذا التيار محاولة لإحياء الاشتراكية البريطانية عبر تجاوز العمل البرلماني التقليدي وربط الحزب بالحركات الاجتماعية الناشئة.

وبلور بن في كتاباته- وخاصة مقال السياسة الجديدة (1970)- مفهوم "المواطن الجديد" المتعلم والمستقل، ورأى أن الاشتراكية مطالبة بتطوير ديمقراطية تشاركية تعكس وعي هذا المواطن.

لذلك دعا إلى إصلاح الحزب من الداخل عبر انتخاب القيادة من القواعد، ومساءلة البرلمانيين، وتوسيع المشاركة في اتخاذ القرار. وكان الهدف أبعد من الإصلاح التنظيمي، إذ سعى إلى دمج الحركات النسوية والبيئية وحركات الأقليات في النسيج الحزبي.

إعلان

ووجدت هذه الرؤية صدى عمليا في تجارب سلطات محلية مثل مجلس منطقة لندن الكبرى بقيادة كين ليفينغستون (1981-1986)، حيث فتحت قنوات المشاركة أمام جماعات المجتمع المدني المهمشة. ورغم محدوديتها المكانية، جسدت هذه التجارب محاولة لربط الحزب بالمجتمع مباشرة.

ويمكن القول إن مشروع بن نقل حزب العمال من نموذج مغلق إلى نموذج يسعى إلى إشراك المجتمع بفاعلية، عبر دمقرطة الحزب أولا، ثم تعميم الممارسات التشاركية في الدولة والمجتمع لاحقا.

الصراع على الحزب

مع مطلع الثمانينيات انتقل اليسار الجديد من التنظير المجتمعي إلى مواجهة تنظيمية داخل حزب العمال. فقد أدرك أن تحقيق أهدافه الديمقراطية يقتضي كسر هيمنة النخبة البرلمانية والنقابية على القرار.

لذلك خاض معركتين مركزيتين: الأولى تعديل طريقة انتخاب زعيم الحزب لتشمل القواعد والنقابات، والثانية فرض إعادة الانتخاب الإلزامي للنواب بما يمنح الفروع المحلية حق مراجعة ممثليها.

وقد أثارت هذه المطالب مقاومة حادة من القيادة التقليدية التي رأت فيها تهديدا مباشرا لسلطتها، وتحول مؤتمر الحزب عام 1981 إلى ساحة مواجهة انتهت بقرارات إصلاحية محدودة.

وفي الخلفية كانت بريطانيا تعيش صعود حكومة تاتشر (1979) ببرامجها التقشفية، مما عمق الأزمات الاجتماعية وخلق فرصا لليسار، لكنه زاد أيضا الانقسام داخله: بين من طالب برد راديكالي واسع، ومن فضل نهجا انتخابيا أكثر براغماتية.

وزاد المشهد تعقيدا انشقاق قيادات نيوليبرالية لتأسيس "الحزب الديمقراطي الاجتماعي" (1981)، وهو ما أضعف وحدة العمال وأفشل قدرة اليسار على فرض رؤيته. وهكذا وجد تيار بن نفسه في مأزق: لم ينجح في السيطرة على الحزب، ولا في بناء تحالف اجتماعي خارجه.

وتحت ضغط الصراع التنظيمي، اضطر بعض أنصاره إلى تكتيكات بيروقراطية تتناقض مع طموحهم الأصلي في تجاوز البنى السلطوية، فانتهى المشروع إلى إعادة إنتاج جزء من منطق المؤسسات التي سعى إلى تغييرها.

إرث ما بعد الهزيمة

مع أواخر الثمانينيات بدأ تراجع اليسار العمالي بوضوح. فبعد صراعات تنظيمية مرهقة وفشل في فرض نفوذه وطنيا، انسحب تيار توني بن تدريجيا من ميدان القرار. وأسهم في ذلك غياب قاعدة اجتماعية ثابتة، وانقسامات النقابات، والشكوك حول جدواه الانتخابية أمام صعود المحافظين.

وكان انسحاب بن من البرلمان (1983) إيذانا بمرحلة كمون. فقد بقي ناشطا في قضايا عامة كمعارضة الحرب والتسلح النووي، لكن تأثيره داخل الحزب تضاءل مع صعود خطاب "التحديث" الذي قاد إلى إقصاء ما اعتبر "يسارا متشددا".

ومع التسعينيات بلور توني بلير مشروع "الطريق الثالث" الذي غير ميثاق الحزب (المادة الرابعة)، وأنهى رسميا التزامه بالملكية الجماعية، وقلص نفوذ النقابات والفروع المحلية لصالح منطق انتخابي صرف.

ورأى كثيرون في ذلك تصفية لإرث بن، ليس فقط اقتصاديا بل فكريا، إذ أعاد بلير ترسيخ "البرلمانية الكلية" التي تحصر الفعل السياسي داخل البرلمان.

وأصبح كل خطاب يساري جذري ينظر إليه كعبء انتخابي. وهكذا تهمشت الأصوات التي تحدثت بلغة بن، دون أن تمحى تماما، إذ بقيت حاضرة في ذاكرة ناشطين وشباب ارتبطوا بالحركات المناهضة للعولمة والتقشف، مما مهد لاحقا لعودة يسار جديد مع كوربن.

إعلان

لقد شكل عقد التسعينيات فجوة بين مشروع بن غير المكتمل ومشروع كوربن الذي ولد من رحم الخيبة وتحولات الحركات الاجتماعية، إلى أن جاءت الأزمة المالية العالمية (2008) لتفتح الباب لبعث يساري جديد.

لحظة كوربن: عودة اليسار بصيغة جديدة

مثل فوز جيريمي كوربن بزعامة حزب العمال 2015 مفاجأة سياسية كبيرة، إذ كان نائبا يساريا مهمشا. لكنه أصبح رمزا لعودة الصوت القاعدي للجماهير الشعبية بفضل ثلاثة شروط بنيوية:

الأزمة المالية العالمية (2008) التي كشفت عجز النيوليبرالية. وانهيار الثقة بالأحزاب التقليدية. ونضوج جيل جديد متأثر بالحركات الأفقية المناهضة للتقشف.

وانطلقت حملته من خارج المؤسسة البرلمانية واستندت إلى تعبئة المتطوعين والشباب، مما ولد طاقة تنظيمية هائلة أعادت تنشيط حياة الحزب الداخلية.

وأصبحت حركة مومنتوم التعبير الأبرز عن هذا الزخم، إذ لعبت دورا محوريا في حشد القواعد وتوسيع نفوذ اليسار. واعتمدت الحركة على أدوات الحركات الاجتماعية الأفقية وتكنولوجيا الحشد الرقمي، مما ميزها عن تجارب الماضي.

ومع ذلك، وجدت مومنتوم نفسها مضطرة إلى خوض معارك تنظيمية داخل الحزب للسيطرة على الهياكل، مما أعاد إنتاج مسارات كان قد سلكها توني بن سابقا. فالبنية البيروقراطية للحزب أجبرت الحركة القاعدية على استخدام الأدوات ذاتها التي انتقدتها، وهو ما خلق توترا بين روح الحركات الاجتماعية، ومتطلبات إدارة السلطة.

لكن لحظة كوربن لم تكن تكرارا لماضي بن. فقد طورت عناصر ابتكار مثل استعمال التكنولوجيا الرقمية في التعبئة، وخطاب اشتراكي ربط العدالة الطبقية بالبيئة وحقوق الأقليات والتحرر العالمي، بما في ذلك دعمه الصريح للقضية الفلسطينية، وهو ما ميزه أخلاقيا عن خصومه.

الهجوم المضاد

ما إن تولى جيريمي كوربن القيادة حتى واجه هجوما داخليا وخارجيا واسعا. فقد رأت المؤسسة الحزبية التقليدية أن صعوده يهدد مصالحها المتجذرة، وبدأت الكتلة البرلمانية تمردا منظما شكك في شرعيته وكفاءته، بينما شنت الصحافة المهيمنة حملة تشويه لصورته كزعيم غير واقعي أو متواطئ مع التطرف.

وفي خضم ذلك، اضطرت مومنتوم إلى التحول من حركة أفقية مفتوحة إلى بنية أكثر مركزية، لحسم الصراعات الداخلية وحماية موقع القيادة. وأدى ذلك إلى خلافات داخلية بين من فضل الاندماج في منطق اللعبة الحزبية، ومن تمسك بروح الحركات الاجتماعية.

وعاد منطق "البرلمانية الكلية" ليقيد المشروع: فقد أصبحت النتائج الانتخابية وموازين القوى في اللجان الحزبية هي التي تحدد المصير. ومع ذلك، حقق كوربن مكاسب بارزة: تضاعفت عضوية الحزب، واستعاد بعض الدوائر الانتخابية، وحقق في انتخابات 2017 نتيجة فاقت التوقعات، واقترب من تشكيل حكومة أقلية.

لكن هذه النجاحات لم تحسم المعركة. إذ جاءت هزيمة 2019 الثقيلة لتمنح خصومه فرصة اجتثاث تياره وطرح رواية تحمله مسؤولية الإخفاق، متجاهلين الانقسام المجتمعي حول البريكست وحملات التشويه الإعلامي. ومع وصول كير ستارمر إلى الزعامة بدأ الحزب يعود سريعا إلى قواعد اللعبة القديمة.

حقبة ستارمر وتصفية اليسار

مع صعود كير ستارمر لزعامة العمال 2020، دخل الحزب مرحلة إعادة تعريف شاملة. وركز ستارمر على الانضباط الخطابي وإعادة تقديم الحزب كتنظيم "مسؤول" قادر على الحكم، وهو ما رافقه تفكيك للبنية التي شيدها التيار الكوربيني: تقليص نفوذ الحركات القاعدية، وتهميش الفروع المحلية، وتشديد السيطرة على آليات الانتخاب الداخلي، مما أدى إلى انسحاب آلاف الأعضاء الجدد.

وعلى المستوى الخطابي تبنى ستارمر "فراغا أيديولوجيا" مقصودا، إذ تراجعت اللغة الاشتراكية لصالح شعارات الوحدة والاستقرار والنزاهة، بينما جرى التعامل مع إرث كوربن بانتقائية. فقد وعد بداية بالحفاظ على روح 2017، لكنه انقلب على معظم التعهدات، وصولا إلى تجميد كوربن ومنعه من الترشح باسم الحزب في 2023، في خطوة جسدت نهاية مرحلة وتصفية منظمة لتيار كامل.

إعلان

لكن التصفية لم تنهِ اليسار. إذ بدأ كوربن وعدد من رفاقه، مثل النائبة زارا سلطانة، تطوير حراك بديل خارج الحزب، لا يتخذ شكل حزب جديد بل مبادرة مفتوحة تعتمد على المجتمعات المحلية والنقابات والتحالفات الشعبية. ويعكس هذا التوجه عودة لفكرة "ما بعد البرلمانية"، أي تجاوز قنوات الدولة التقليدية نحو الفعل المجتمعي المباشر.

وهكذا تحول كوربن إلى رمز سياسي أبعد من موقعه السابق كزعيم حزب، وأصبح يمثل ضميرا يساريا يحافظ على جذوة المشروع التحرري، ويذكر بحدود الاستيعاب المؤسسي داخل حزب العمال.

فلسطين في خطاب ستارمر وحدود الرمزية السياسية

أعلن كير ستارمر في يوليو/تموز 2025 أن المملكة المتحدة ستعترف بدولة فلسطين بحلول سبتمبر/أيلول ما لم توقف إسرائيل عدوانها على غزة والتوسع الاستيطاني وتسمح بدخول المساعدات وتتوصل إلى وقف لإطلاق النار. وبدا الإعلان محاولة لاستعادة مصداقية أخلاقية لحزب العمال أكثر من كونه تحولا جوهريا في سياسته الخارجية.

فمن ناحية أولى، جاء الإعلان في سياق داخلي مضطرب، مع انسحاب قطاعات يسارية من الحزب وتشكل مبادرات سياسية جديدة بقيادة كوربن وزارا سلطانة، فبدا الاعتراف خطوة استباقية لامتصاص النقد واستعادة بعض الشرعية. ومن ناحية ثانية، ارتبط الاعتراف بشروط دبلوماسية فضفاضة، مما جعله أقرب إلى ورقة مساومة سياسية منه إلى موقف مبدئي ثابت.

ويستدعي ذلك المقارنة مع فترة كوربن، حيث تعرض لاتهامات بمعاداة السامية؛ بسبب دعمه الواضح لفلسطين، في حين يستعاد الموقف نفسه اليوم في خطاب ستارمر باعتباره "اتزانا دبلوماسيا".

والفارق لا يكمن في المضمون بل في من يملك شرعية التعبير: كوربن تبنى الموقف التزاما أخلاقيا ودفع ثمنه سياسيا، بينما يوظفه ستارمر كأداة رمزية لتسكين التناقضات الداخلية.

بين الشيطنة والاحتواء

لا يمكن فهم إعلان ستارمر عن الاعتراف بفلسطين دون استحضار حملة شيطنة كوربن، التي تمحورت حول التشكيك في شرعية مواقفه المؤيدة لفلسطين عبر اتهامه بمعاداة السامية. فقد كان موقفه المبدئي من حقوق الفلسطينيين يقدم كـ"تطرف"، بينما يعاد اليوم التعبير عنه بصياغات أكثر نعومة بوصفه "اعتدالا".

وتكشف هذه المفارقة أن الحملة ضد كوربن لم تكن أخلاقية بل سياسية، استخدمت لإعادة رسم حدود الخطاب المسموح به في بريطانيا. إذ سعت المؤسسة إلى قصر دعم فلسطين على لغة رمزية لا تقلق الحلفاء الغربيين ولا تتجاوز السقف المؤسسي. وبذلك، لم يكن تهميش كوربن لشخصه فقط، بل لإمكانية أن يطرح اليسار خطابا تحرريا صريحا من داخل الفضاء السياسي السائد.

وقد أظهرت تجربة ما بعد كوربن أن النظام السياسي يقاوم ليس فقط التغيير الاقتصادي الجذري، بل أيضا أي مقاربة أخلاقية للقضايا الدولية تتجاوز منطق التوازنات الإستراتيجية. وهكذا أصبحت قضية فلسطين مرآة تكشف حدود التعددية داخل الديمقراطية البريطانية المعاصرة.

دروس التجربة وحدود الممكن

تكشف مسيرة اليسار العمالي البريطاني، من توني بن إلى جيريمي كوربن، عمق العوائق التي تواجه أي مشروع تحرري يسعى لتجاوز منطق "البرلمانية الكلية".

فقد تراوحت التجربتان بين محاولات إصلاح الحزب من الداخل وتجارب تنظيمية أفقية من خارجه، لكنها اصطدمت دوما بالبنية المؤسسية للنظام السياسي، التي أعادت إنتاج السيطرة وحدت من قدرة اليسار على التغيير.

وجاء خروج كوربن وما رافقه من مبادرات جديدة ليعيد طرح السؤال الجوهري: هل يمكن لليسار أن يبني مشروعا تحرريا من داخل مؤسسات تقليدية طاردة؟ أم أن التحول الحقيقي يقتضي الانتقال من الحزب إلى الحركة، ومن التفاوض إلى النضال؟

وفي المقابل، يكشف خطاب ستارمر أن المؤسسة قادرة على استيعاب الرمزية الأخلاقية دون الالتزام الفعلي، وهو ما يجعل اللحظة الراهنة مفصلية بين يسار مروّض وظل باهت، أو مشروع بديل أكثر وضوحا ومبدئية.

وفي ذلك، تظل سيرة كوربن ومواقفه شاهدا لا يمحى على إمكان القول المختلف، حتى وإن كلف ذلك عزلة سياسية منظمة. وبينما تستعاد عباراته ومبادؤه الآن في صيغ مخففة وبلا أثر حقيقي، يظل الفرق جليا: ثمة من قال ما يؤمن به ودفع الثمن، وثمة من يقول ما لا يؤمن به ليحصد المكاسب.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

0 تعليق