نابلس- على بُعد كيلومترات قليلة، يقف مصطفى غنام على قمة تلة مطلّة، يحدّق في الأرض التي ورثها عن والده وجده ويتقاسمها مع إخوته، فهو لا يجرؤ على الاقتراب أكثر خشية اعتداءات المستوطنين.
وحتى وقوفه في الأعلى يجعله مترقبا، يخشى من الطائرات المسيرة "الدرون" التي يطلقها جيش الاحتلال في السماء ما إن يلمح وجود فلسطيني يقترب من هذه الأرض.
استيلاء بقوة السلاح
يتحدث غنام -الرجل المسن من بلدة تل غرب نابلس– بحزن عميق عن أرضه التي حُرم من الوصول إليها منذ عام 2001، ويستعيد ذكريات طفولته بين حقولها، وأيام العمل الشاق في الزيتون والقمح والشعير وغيرها من المحاصيل التي كانت مصدر رزق لعائلته.
لكن منذ ذلك التاريخ، أصبحت الأرض محرمة عليهم بقرار فرضه المستوطنون بقوة السلاح.
يقول للجزيرة نت "لدي ذكريات كثيرة مع هذه الأرض منذ طفولتي، مع إخوتي ووالدي. كنا نزرع الزيتون، التين، اللوز، الصبار، والقمح والشعير والخضراوات، والدي ربانا من هذه الأرض، علّمنا وأعاشنا منها، كنا نقضي أيامنا فيها حتى المساء".
ويستعيد غنام تفاصيل موجعة من ذاكرته، حين تعرّض والده لاعتداء المستوطنين الذين انهالوا عليه ضربا وأطلقوا عليه الكلاب، يومها قصدوا مستوطنة كدوميم لتقديم شكوى، لكنها رُدت بذريعة "عدم التمييز".

ومنذ ذلك الحين، رفع مصطفى ووالده قضيتهم الأولى أمام محاكم الاحتلال، لكنها ما زالت معلّقة حتى اليوم دون أي حسم.
يضيف غنام أنه أكثر من مرة حاول العودة إلى الأرض برفقة الارتباط الإسرائيلي، لكن المستوطنين كانوا يهاجمونهم ويمنعونهم من الوصول "حتى الجيش نفسه لم يجرؤ على إدخالنا إليها".
وأصدرت قوات الاحتلال الأسبوع الماضي قرارا بمصادرة 455 دونما (الدونم يساوي ألف متر مربع) من أراضي قرى تل غرب نابلس شمال الضفة الغربية وفرعتا وجيت شرقي مدينة قلقيلية شمال الضفة الغربية، وصنّفتها كـ"أراضي دولة".
إعلان
ومن بين الأراضي المصادرة 55 دونما تعود لفرعتا وجيت، فيما استحوذت قرية تل على النصيب الأكبر بـ400 دونم، ويملك مصطفى غنام وحده منها 84 دونما، وهي الأرض التي يمنع من الوصول إليها منذ سنوات.
تدرج بالسيطرة
لم يفاجأ غنام بقرار المصادرة الأخير فهو يرى فيه امتدادا لسياسة الاحتلال المستمرة منذ سنوات، ويوضح "عندما صدر القرار الجديد بالاستيلاء على الأراضي، لم يكن غريبا علينا. الاحتلال يتدرج في السيطرة: أولا يمنع الوصول، ثم يعتدي المستوطنون، فيُجبر الناس على ترك الأرض، وبعدها تُعلن المصادرة. هذا القرار هو في الحقيقة توسعة للبؤرة الاستيطانية".
ورغم أنه يحتفظ بوثائق رسمية تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي تثبت ملكية جده ووالده لهذه الأرض، وتشير إلى دفعهم ضرائب ملكيتها لحكومة فلسطين -تحت حكم الانتداب البريطاني آنذاك- وقدمها للمحاكم الإسرائيلية، إلا أن الاحتلال مضى في مصادرتها لصالح توسيع بؤرة "حفات جلعاد" الاستيطانية المجاورة.
يختم المسن الفلسطيني بصوت يملؤه الحزن "الأرض أرضنا، ولدينا الوثائق التي تثبت ذلك، لكن الاحتلال يحكم بمنطق القوة. أملنا أن يُعاد الحق لأصحابه، وأن نستطيع العودة إليها يوما".

الاستيطان كرة نار
من جهته، أوضح مدير عام التوثيق والنشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أمير داود أن الهدف الأساسي من قرار المصادرة الأخير هو شرعنة بؤرة "حفات جلعاد" الاستيطانية، وهي بؤرة كبيرة أُنشئت عام 2003.
ففي عام 2018 قررت حكومة الاحتلال تسوية أوضاعها عبر مصادرة الأراضي المحيطة بها، واليوم ينفذ الاحتلال عمليا ذلك القرار، ضمن خطة أوسع لتحويل معظم البؤر الاستيطانية إلى مستوطنات معترف بها رسميا.
يقول داوود للجزيرة نت إن المشروع الاستيطاني مثل كرة نار، لا يتوقف عند حدود معينة، بل يتمدد باستمرار ويبتلع المزيد من الأراضي الفلسطينية.
وأشار إلى أن الفترة التي أعقبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 شهدت تصعيدا غير مسبوق في وتيرة المصادرات، إذ أُعلن عن 26 ألف دونم كـ"أراضي دولة"، وهو ما يعادل تقريبا كامل المساحات التي صودرت بهذا المسمى منذ اتفاق أوسلو عام 1993 وحتى اليوم.
ويضيف أنه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول زادت الإعلانات بشكل لم يحدث من قبل، ومعظمها يذهب نحو تسوية أوضاع البؤر الاستيطانية.
أما عن مصطلح "أراضي دولة"، فيوضح داوود أن له دلالات قانونية ملتوية، إذ يستند الاحتلال إلى قوانين عثمانية قديمة، وتحديدا قانون الأملاك الحكومية والأميرية، الذي وُضع أصلا لتشجيع الناس على استصلاح الأراضي وعدم تركها بورا. فبحسب القانون، إذا تُركت الأرض بلا استصلاح لـ5 أو 7 سنوات، تتحول ملكيتها للدولة.
ويشرح داوود أنه في الحالة الفلسطينية، يمنع الاحتلال المزارعين عمدا من الوصول إلى أراضيهم لسنوات طويلة، فتُترك بورا، ثم يعلنها أراضي دولة، وبهذه الآلية يتم نزع الملكية من أصحابها وتحويلها لملكية دولة الاحتلال.

تهديد الوجود الفلسطيني
ويلفت داوود إلى أن هذه المصادرات ليست مجرد قرارات إدارية، بل خطر إستراتيجي يهدد الوجود الفلسطيني في المنطقة.
إعلان
ويقول إن المنطقة أصلا محاصرة بالمستوطنات، والفلسطينيون ممنوعون من الوصول إلى أراضيهم، "والخطر أن يتحول وجود المستوطنين إلى أمر واقع دائم، تُعزز اعتداءاتهم بإجراءات رسمية من حكومة الاحتلال".
ويضيف أن بؤرة "حفات جلعاد" كانت لسنوات طويلة بؤرة غير معترف بها رسميا، لكن الحكومة الإسرائيلية اليوم تمنحها الشرعية وتوفر لها الامتيازات، في انسجام كامل مع المشروع الاستيطاني الأوسع الممتد من جنين حتى نابلس في شمال الضفة، مرورا بمسافر يطا في الجنوب.
ويوضح أن الهدف هو تعزيز السيطرة الاستيطانية وتحويل الأراضي الفلسطينية إلى فضاء مفتوح أمام التوسع الاستيطاني.
وعلى المستوى القانوني، يشير داوود إلى أن المتابعة مستمرة عبر المسار القضائي، رغم إدراك الفلسطينيين أن المنظومة القانونية الإسرائيلية مُسخّرة بالكامل ضدهم. فبحسب القانون الدولي، لا يحق للقوة القائمة بالاحتلال مصادرة الأراضي بشكل دائم، بل يقتصر الأمر على السيطرة المؤقتة لأسباب أمنية، على أن تعود الأرض إلى أصحابها بعد زوال تلك الأسباب.
لكن ما يحدث على الأرض مختلف تماما، إذ يخالف الاحتلال هذه القاعدة الجوهرية ويحوّل الأراضي الفلسطينية إلى ما يُسمى "أراضي دولة"، ليخصصها لاحقا للمستوطنين.
وتواصل هيئة مقاومة الجدار والاستيطان تقديم الطعون القانونية ومساندة أصحاب الأراضي، رغم إدراكها أن النتائج على أرض الواقع غالبا ما تصطدم بواقع قانوني منحاز لصالح المشروع الاستيطاني.
0 تعليق