في أحد أيام الغوص بين الشعاب المرجانية، قد يلمح الغواص سمكة تفتح فمها لبرهة، فيكتشف مشهدًا لا يُنسى: كائن غريب صغير أبيض يلمع في مكان اللسان.
للوهلة الأولى قد يبدو الأمر وكأنه مشهد من فيلم رعب، لكنه طفيلي بحري صغير يدعى "قملة اللسان" أو "عضاضة اللسان" ويعرف علميًا باسم "سيموثوا إكسيجوا"، ينتمي إلى فصيلة القشريات، ويشبه في مظهره حشرة "أبو مقص" أو قمل الخشب، لكن عالمه مختلف تماما، إذ يسكن في أعماق البحار.
تقول أمينة ومديرة مركز التنوع البيولوجي البحري في متحف التاريخ الطبيعي في مقاطعة لوس أنجلوس، ريجينا ويتزر،"إذا اقتربنا أكثر، سنجد أن سيموثوا إكسيجوا مجرد قشري صغير الحجم، يتراوح طوله عادة بين أقل من سنتيمتر واحد و3 سنتيمترات فقط، أي بحجم يقارب الصرصور المنزلي".
في حديثها للجزيرة، تصف هذا الكائن بقولها "جسمه قصير وبيضاوي، مقسم إلى عدة حلقات صلبة، يكسوه درع خارجي يشبه القشرة الصلبة التي تحمي القشريات عادة".
هذا الكائن الغريب مزود بترسانة صغيرة من الأدوات الطبيعية، 7 أزواج من الأرجل تنتهي بأشواك دقيقة تساعدها على التعلق بقوة في الفم، وكأنها مجهزة بأدوات تثبيت متخصصة، و5 أزواج من الفكوك المعدلة على هيئة إبر حادة تشبه المخرز، تخترق نسيج اللسان وتمتص الدماء.
أما لونه، فيتدرج بين الرمادي والبني الفاتح، ما يجعله أشبه بقطعة صغيرة من الحصى أو الخشب المبلل، فتبدو كعنصر طبيعي يخفي نفسه وسط بيئة المضيف.
وينتشر هذا الطفيلي في مياه المحيط الهادئ من خليج كاليفورنيا إلى بيرو، ويصيب أنواعا مختلفة من الأسماك، وهو واحد من حوالي 400 نوع تنتمي إلى عائلة من طفيليات الأسماك، يلتصق بعضها برأس مضيفها، ويمتص بعضها الآخر دم خياشيم السمك، ويحفر بعضها الآخر في لحم السمك.
رغم أن الأبحاث تركز غالبًا على بعض الأنواع المعروفة مثل تلك التي تصيب أسماك "الكروكر" قبالة سواحل فلوريدا، فإن الحقيقة أن هذا الطفيلي أكثر تنوعا.
إعلان
أحصت دراسة نُشرت عام 2012 حوالي 280 نوعا معروفا من قمل اللسان، لكن هذا الرقم لا يعكس سوى قمة جبل الجليد، ففي مسح أجراه فريق من جامعة أنامالاي في الهند، اكتشف الباحثون 10 أنواع جديدة من هذه الطفيليات في 9 أنواع فقط من الأسماك على طول السواحل الهندية.
قبل هذا المسح، لم يكن معروفًا سوى 47 نوعًا في تلك المنطقة، وهذا يوضح أن المحيطات ما تزال تخفي مئات -وربما آلاف- الأنواع غير الموصوفة بعد، ومن غير المستبعد أن يحمل بعضها إستراتيجيات أكثر غرابة حتى مما نعرفه الآن.

الطفيلي كلسان بديل
تبدأ دورة حياة هذا الطفيلي كيرقات صغيرة تسبح بحرية في ماء البحر، لكنه لا يستطيع العيش طويلا دون العثور على سمكة مضيفة مناسبة، إذ يعتمد كليا على امتصاص دمها ومخاطها لتستمر على قيد الحياة.
تؤكد ويتزر أن "قملة اللسان ضعيفة جدًا في السباحة، ولا تستطيع البقاء طويلاً في المياه المفتوحة، لهذا السبب، فإن العثور على مضيف والتمسك به هو شرط وجودها الوحيد".
وتضيف "عندما تجد ضحيتها تتسلل فورًا إلى جسمها عبر الخياشم، ثم تشق طريقها تدريجيًا إلى تجويف الفم".
هذا الدخول الأولي يبدو غير ضار في البداية، لكن بمجرد أن تستقر القملة عند قاعدة اللسان، وتثبِّت نفسها بأطرافها الحادة، تبدأ المرحلة الأكثر إثارة للرعب: تمسك بالعضو بفكّيها القويين، وتشرع في امتصاص دمائه شيئًا فشيئًا باستخدام مخالبها الأمامية.
هنا تبدأ خطوتها الشهيرة، فتقطع الإمداد الدموي عن لسان السمكة، ونخر أنسجته، مما يتسبب في ضموره، ويموت تدريجيًا نتيجة لنقص التغذية والأكسجين، حتى يسقط في النهاية.
عند هذه النقطة، لا تكتفي القملة بكونها سبب فقدان السمكة لسانها، بل تستغل الفرصة لتتربع مكان العضو المفقود، وتثبت نفسها بالجزء المتبقي من اللسان بإحكام شديد، وتلتصق به بأرجلها الشائكة.
الجانب الأكثر إثارة للدهشة في هذا التطفل هو أن هذا الكائن يصبح لسانا بديلا تعتمد عليه السمكة في تحريك الطعام داخل الفم، بدلاً من تركها عاجزة عن الأكل والموت جوعًا، هكذا -ولغالبية عمر السمكة- تكون هذه الطفيلية هي "لسانها الجديد" الذي يتحرك معها كأنه جزء من جسمها.

علاقة معقدة بين الطفيل والمضيف
هذا الوضع المثير يتيح للقملة خيارين للبقاء، فهي تستطيع أن تتغذى مباشرة من دم السمكة، وبعد نفاذه على مستوى اللسان، تلجأ بعض الطفيليات إلى التغذي على المخاط الذي تفرزه السمكة، أو تسرق جزءًا من الطعام الذي تلتقطه السمكة بفمها.
ما يجعل هذا المخلوق الصغير فريد من نوعه، هو أن السمكة تستمر في كلتا الحالتين مرغمة في استخدام القملة كبديل وظيفي للسانها، فتحاول التأقلم مع الوضع لكن تحت سيطرة هذا الضيف الغريب الذي يفقدها جزءا من طاقتها بسبب مشاركته في غذائها.
تتخذ القملة من فم السمكة ملجأ لها، فبدلًا من أن تبحث عن طعامها أو تلجأ إلى الشقوق بين الصخور للاحتماء، تجد هناك مكانا دافئا وآمنا يوفر لها وجبة يومية مضمونة، ومع الوقت، لا تكتفي بالاستفادة من هذا المأوى، بل تتحكم حتى في كل ما تأكله السمكة المضيفة، لتغدو الأخيرة مجرد وسيلة لتغذية القملة.
إعلان
وتوضح ويتزر أن "بعض الأنواع القريبة من قملة اللسان، من القشريات الطفيلية، تستطيع أن تعيش بحرية بأعداد كبيرة، وتلتهم الأسماك الميتة أو الضعيفة، أما قملة اللسان نفسها فليس لديها هذه القدرة، إذ يقتصر وجودها على البيئة الضيقة داخل فم السمكة".
وتضيف "هذه العلاقة غريبة ومثيرة للتأمل، فهي لا تشبه الافتراس المباشر ولا مجرد مشاركة في الطعام، بل أقرب إلى اندماج قسري، حيث يتحول الطفيلي إلى جزء من جسد المضيف، يعمل كعضو بديل رغم أن وجوده يسبب له الضرر على المدى الطويل".

تعايش قسري
قد يتخيل البعض أن السمكة ستموت بمجرد فقدان لسانها، لكن الكثير من الأسماك المصابة تظهر تكيفا مدهشا، وتستمر في حياتها بشكل طبيعي نسبيا، وتظل قادرة على الأكل والنمو، وإن كان ذلك بمعدل أبطأ.
تستخدم السمكة القملة كلسان بديل، وكأن جسدها قبل بهذا "العضو المزروع" دون مقاومة، وهذا ما حيّر العلماء زمنا طويلاً: كيف يفقد مخلوق لسانه ويعيش؟
السر -كما تقول ويتزر- أن "هذا الطفيلي قادر على القيام بوظيفة اللسان بالكامل، فهو الحالة الوحيدة المعروفة في الطبيعة التي يستطيع فيها كائن طفيلي أن يستبدل عضوا كاملاً في جسد المضيف، ليس فقط شكليا بل وظيفيا أيضا، ما يسمح للسمكة بالاستمرار في تناول غذائها مستخدمة القملة نفسها كلسان حي يعمل كجزء من فمها".
وهنا ترى ويتزر أن "هذه العلاقة لا يمكن وصفها بالطفيلية البحتة، بل أقرب إلى شكل غريب من أشكال التعايش، حيث يفقد المضيف جزءًا من كفاءته الطبيعية، لكنه يظل قادرًا على العيش، بينما يضمن الطفيلي بقاءه معتمدًا على هذا الارتباط الفريد".
على الرغم من قدرة الأسماك المضيفة على التعايش مع هذا الطفيلي لسنوات، وبعضها يبدو غير متأثر إلى حد كبير، باستثناء الضرر الموضعي الواضح، إلا أنها لا تخرج رابحة تماما، فهي تخسر جزءًا من غذائها لمصلحة الطفيلي، ويحمل وجوده تأثيرات متفاوتة.
تشمل الآثار السلبية المحتملة بطء النمو وفقر الدم وزيادة الحساسية للإجهاد، ويكون بعضها الآخر أكثر عرضة للضغوط البيئية، وأضعف قليلاً، وأقل قدرة على المنافسة مقارنة بغيرها، نتيجة استنزاف الطفيلي للموارد الغذائية من دم السمكة.
ورغم قسوة هذه العملية، يبدو أن هذا التعايش السلبي أكثر نجاحًا من قتل السمكة، لأن القملة تعتمد على بقاء مضيفها حيًا، فهي طفيلي إجباري لا يستطيع الحياة منفردًا.
لكن في حالات نادرة، تظهر فرصة لنجاة السمكة، حيث تلجأ بعض الأسماك إلى الجمبري المنظِّف، والمعروف باسم جمبري بيترسون، هذا الكائن الصغير الذي يعيش في الشعاب المرجانية، يلعب أحيانا دور المنقذ للسمكة المغلوبة على أمرها.
ببراعة يقوم الجمبري بانتزاع القملة الطفيلية من فم السمكة، فيقتات هو الآخرعليها، وبذلك تستعيد السمك قدرة على الحياة الطبيعية بعد التخلص من هذا الكائن المزعج.
هذه العلاقة الغريبة تكشف بوضوح عن مدى تعقيد التفاعلات البيولوجية في أعماق البحار والمحيطات، فما بين قملة اللسان التي تستولي على جسد ضحيتها لتصبح جزءًا منها، وبين الجمبري المنقذ الذي يعيد التوازن في كثير من الأحيان، يتجلى صراع الحياة والموت بأغرب أشكاله.
طريقة تكاثر مذهلة
من أعجب أسرار قملة اللسان أنها تمتلك القدرة على تغيير جنسها خلال مراحل حياتها، فيما يُعرف بالتغير الجنسي المتسلسل، وهو ظاهرة حيوية نادرة يبدل فيها الكائن (خاصة الأسماك) جنسه خلال مراحل حياته، استجابةً لعوامل بيئية أو اجتماعية بهدف تعزيز فرص التكاثر.
هذا التحول الجنسي والوظيفي كشفه باحثون مثل كولت ويليام كوك من جامعة تكساس، في أطروحة ماجستير عام 2012، موضحا أن جميع الأفراد يبدأون حياتهم ذكورا، لكن أول من يتمكن من احتلال فم السمكة، يتحول تلقائيًا إلى أنثى كاملة، تصبح أكبر حجمًا وأكثر قوة، وتحتكر مكان اللسان، وتستقر هناك في تجويف الفم، وتنتظر ظهور طفيلي آخر.
إعلان
إذا دخلت ذكور أخرى إلى نفس السمكة، وكان اللسان قد سُلب بالفعل، فإنها تبقى ذكورًا وتتمركز في منطقة الخياشيم وتنتظر حتى تُتاح لها فرصة التبديل.
هذا التبديل يرافقه تغيرات مذهلة في الجسم: تكبر الأنثى بشكل كبير وتتقلص عيناها لأنها لم تعد مضطرة للبحث عن مضيف وتتمدد أرجلها لتعمل كخطاطيف قوية تثبتها في الفم.
والأغرب أن الأنثى تتحكم في جنس الآخرين، إذ يعتقد أنها تفرز هرمونات تمنع الذكور الآخرين داخل الفم من التحول إلى إناث، لكن إذا ماتت الأنثى المسيطرة أو غادرت فم السمكة، فإن أكبر الذكور يتحول تلقائيًا إلى أنثى جديدة لتأخذ مكانها.
بخلاف ذلك، يبقى الذكور الأصغر حجمًا في الغالب مختبئين بين الخياشيم حيث قد يتسلقون إلى الفم للتزاوج، هذه "السياسة الجنسية" تجعل حياة القملة مثالاً باهراً على التكيف التطوري.

رحلة اليرقات الشاقة
عندما يلقح أحد الذكور المهاجرة نحو الفم الأنثى، تضع المئات من ذكور الطفيليات الحية، وتحملها داخل جراب خاص يشبه جراب الكنغر حتى تصبح جاهزة للسباحة، وتخرجها من فم السمكة إلى البحر.
تبدأ رحلة اليرقات الصغيرة منذ لحظة الميلاد بصعوبة بالغة، تماما كما واجهت أمهم من قبل تحديا حاسما منذ لحظة الميلاد.
فالأيام الأولى حاسمة، إذ يجب عليها العثور بسرعة على أسماك مضيفة خاصة بهم لاتخاذها موطنًا لهم.
وجد كوك أن هذه الطفيليات -خلال أيامها الأولى- تبحث بجنون عن سمكة مضيفة خاصة بها لاتخاذها موطنًا لهم، معتمدة في ذلك على الشم الكيميائي، إذ تتبع الروائح التي تطلقها الأسماك في الماء، وإذا مرّ ظل فوقها وكانت الرائحة قوية، تنطلق لأعلى عبر الماء بسرعة خاطفة.
لكن هذا الاندفاع يستهلك الكثير من الطاقة، وإذا فشلت في العثور على مضيف في الأيام القليلة الأولى، تضطر إلى التوقف عن الحركة والانتظار على أمل أن تتمكن من نصب كمين لسمكة تسبح بالقرب منها.
هذه البداية القاسية تفسر سبب احتشاد العديد من الذكور داخل سمكة واحدة مع أنثى واحدة فقط، من منظور بقاء النوع، من الأفضل للذكور أن "يتقاسموا" المضيف نفسه، بدلًا من المجازفة بالخروج.
قد يكون البحث عن سمكة أخرى مع أنثى طفيلية واحدة استراتيجية أقل نجاحًا من التنافس مع الذكور الذين تعيش معهم.
أثر بيئي لا يُستهان به
وجود قملة اللسان في المحيطات ليس مجرد قصة طريفة أو بشعة، بل تظهر لنا كيف أن أصغر الكائنات يمكن أن تلعب دورا معقدا في النظام البيئي، وتسهم في توازن البيئة البحرية.
وفقًا لويتزر "يلعب هذا الطفيلي دورًا غير مباشر في تنظيم أعداد الأسماك والحفاظ على التنوع البيولوجي في البحار، فحين يصيب بعض الأسماك، فإنه يقلل من كفاءتها الحيوية، ويجعلها أبطأ في الحركة وأكثر عرضة للافتراس، وبهذا يحد من تكاثرها المفرط أو سيطرتها الكاملة على موائل معينة، وهو ما يساعد على حفظ التوازن الطبيعي بين الأنواع المختلفة داخل النظام البيئي البحري".
وتضيف "على الجانب الآخر، يسبب وجود هذا الطفيلي إزعاجًا للقطاع السمكي، فالأسماك المصابة لا تباع بسهولة في الأسواق، إذ ينفر المستهلكون عادة من مظهر الطفيلي داخل فمها، حتى وإن كانت صالحة للأكل، وهذا يقلل من قيمتها التجارية ويؤثر على مردود الصيد البحري".
ويمكن أن ترتفع معدلات التطفل بشكل مفاجئ بين العوائل المفضلة لهذه الطفيليات، والتي تشمل أسماك النهاش والسلمون المرقط، وغيرها من الأسماك التجارية التي يستهلكها الناس أيضًا بشكل شائع.
وجدت دراسات أجريت على سمك الدنيس المخطط المتوسطي وسمك بومبانو المرقط الكبير من جنوب أفريقيا أن ما يقرب من نصف الأسماك تحمل قمل اللسان في أفواهها، ويمكن أن يرتفع العدد أكثر في مزارع الأسماك.
عادةً ما تُزال هذه الطفيليات من أفواه الأسماك، لكنها وجدت طريقها أحيانًا إلى محلات البقالة ومطابخ المنازل، لذلك يجب التأكيد أنها لا تشكل أي خطر على الإنسان، فهي متخصصة بالأسماك فقط، ولا تستطيع العيش في أجسام البشر، وحتى لو تناول شخص سمكة مصابة بعد الطهو، فإن الطفيلي لا يسبب أي مرض أو تسمم.
0 تعليق