"لقد رحل العظيم، بل الأسطوري، تشارلي كيرك... كان محبوباً من الجميع"، بهذه الكلمات، نعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنفسه الناشط اليميني الشاب، معلناً الحداد العام وتنكيس الأعلام، في أعقاب حادثة اغتيال صادمة أثناء فعالية جامعية.
هذا التكريم الرئاسي الاستثنائي لشخصية لا تحمل صفة رسمية، يكشف حجم التأثير الذي كان يتمتع به كيرك، الذي وصفته مجلة "ذي أتلانتيك" بأنه "صانع الملوك الجديد في اليمين الأمريكي"، ويثير تساؤلات مقلقة حول ما إذا كان مقتله سيشعل فتيل العنف السياسي ويدفع أمريكا نحو المجهول.
من مؤثر على الإنترنت إلى صانع ملوك
بالنسبة للكثيرين خارج الولايات المتحدة، كان تشارلي كيرك (32 عاماً) مجرد وجه مألوف في مقاطع فيديو تنتشر كالنار في الهشيم، يظهر فيها وهو يجادل طلاباً ليبراليين حول الإجهاض، أو يدافع عن القيم المحافظة وحق حمل السلاح، أو يروج بشراسة لسياسات دونالد ترامب. لكن كيرك كان أكبر بكثير من مجرد مؤثر على الإنترنت.
فهذا الشاب الذي لم يدرس في الجامعة، أسس في سن الـ 18 منظمة "Turning Point USA"، التي تحولت من مشروع صغير إلى إمبراطورية إعلامية وثقافية وسياسية بإيرادات تجاوزت 92 مليون دولار عام 2023، ولها وجود في أكثر من 850 جامعة. ومن خلال برنامجه الصوتي (البودكاست) الذي احتل مراتب متقدمة على منصتي "آبل" و"سبوتيفاي"، وكتبه الأكثر مبيعاً، بنى كيرك قاعدة جماهيرية ضخمة ونفوذاً هائلاً.
وقد ترجم هذا النفوذ إلى قرب غير مسبوق من دائرة السلطة. ففي ولاية ترامب الأولى، زار كيرك البيت الأبيض أكثر من 100 مرة. وفي ولايته الثانية، كان حاضراً في كل مفاصل تشكيل الإدارة، من اختيار الوزراء إلى حفل التنصيب الخاص، حتى أنه حظي بمقعد أفضل من معظم أعضاء الكونغرس في حفل أداء اليمين، وبرر ذلك سيناتور جمهوري بأن "ما بذله كيرك لوصول ترامب يفوق ما بذله معظم أعضاء الكونغرس".
عقيدة "الجبال السبعة": المسيحية السياسية المتطرفة
لم يكن تأثير كيرك مجرد تأثير سياسي، بل كان مدفوعاً بعقيدة أيديولوجية عميقة هي "القومية المسيحية". فبعد تحول روحي في عام 2019، تبنى كيرك خطاباً يمزج الدين بالسياسة، داعياً الكنيسة إلى "النهوض" لإنقاذ أمريكا.
وفي جوهر هذا الخطاب تكمن عقيدة "تفويض الجبال السبعة"، وهي نظرية لاهوتية متطرفة تدعو إلى ضرورة سيطرة المسيحيين المتدينين على سبعة مجالات محورية في المجتمع: الحكومة، الإعلام، الأسرة، الأعمال، الفنون، التعليم، والدين. الهدف النهائي لهذه الأيديولوجيا هو إنهاء التقليد الأمريكي بفصل الكنيسة عن الدولة، وترسيخ حكم مسيحي قد يذهب في طموحاته إلى تطبيق شرائع العهد القديم حرفياً. وقد صرح كيرك بوضوح في عام 2021 بأن على المسيحيين "احتلال كل شيء حتى مجيء المسيح"، مفسراً ذلك بأنه دعوة لـ"احتلال" الفضاء السياسي.
المدافع الشرس عن الصهيونية.. والمتهم بمعاداة السامية
كان كيرك أيضاً من أبرز وجوه "المسيحية الصهيونية"، التي تؤمن بأن الدفاع عن كيان الاحتلال هو واجب ديني. وقد أنكر المجاعة والإبادة في غزة ووصفها بأنها "حملة دعائية". هذا الموقف جعله حليفاً ثميناً لحكومة الاحتلال اليمينية، وهو ما يفسر ردود الفعل القوية على اغتياله. فقد نعاه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو واصفاً إياه بـ"صديق إسرائيل والمدافع عن الحضارة اليهودية-المسيحية"، وكذلك فعل الوزير المتطرف إيتمار بن غفير.
ولكن المفارقة أن هذا الدعم الشرس لم يمنع توجيه اتهامات "بمعاداة السامية" لكيرك في مناسبات انتقد فيها بعض الجاليات اليهودية أو ناقش دور لوبيات الضغط المؤيدة للاحتلال مثل "أيباك".
أمريكا إلى المجهول: أصداء الاغتيال ومخاطر العنف
يأتي اغتيال كيرك في لحظة حرجة للديمقراطية الأمريكية. فالاستقطاب السياسي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، وأظهرت الدراسات أن شريحة متنامية من أنصار الحزبين أصبحت منفتحة على استخدام العنف ضد خصومها.
وسارع ترام-ب بالفعل إلى اتهام "اليسار الراديكالي" بالوقوف خلف الحادث، وبدأت شخصيات يمينية بالدعوة إلى حملات قمع ضد الليبراليين، دون أي دليل. وإذا كان اليمين الأمريكي سيحول مقتل كيرك إلى "لحظة ملحمية"، فإن هذه اللحظة قد تدفع أمريكا نحو المزيد من التطرف والعنف، وتضع نظامها السياسي أمام أخطر اختبار يواجهه منذ تأسيسه.
0 تعليق