وَهبُ الذي وهبَ سفن المعنى ضوءا في مرافئ الأدب والنقد - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في فضاءات الحرف، حيث يتشابك الضوء بالمعنى، ويسكن الشعرُ في ظلال التأمل، ولدَ ناقدٌ لا يكتفي بأن يقرأ القصيدة، بل ينصت لنبضها العميق، ويُعيد تشكيل وهجها على ضوء فكرٍ ثاقب ووجدانٍ مرهف.

وهب رومية… لم يكن ناقدا فحسب، بل كان شاعرا خفيا في ثياب المفكر، يقرأ النص كأنما يكتشفه من جديد، وينسج من كلماته رؤى تسبر أغوار الزمان والمكان.

هل يمكن للنقد الأدبي أن يكشف عن أبعاد جديدة في نصوص التراث؟ وكيف يمكن للمفكر أن يقرأ الشعر بطريقة تضيء آفاقا جديدة لم نفكر فيها قبلا؟ وهل يمكن لفهم عميق للأدب أن يعيد تشكيل ذائقتنا الثقافية؟

بهذه الأسئلة بدأ الراحل وهب رومية رحلته في عوالم الأدب العربي، متسلّحا بفكر لا يرضى بالسكون، وبذائقة تأبى التسطيح، فكشف الغائب، وفتح أبواب التأويل أمام أجيال من القرّاء والباحثين.

في هذا المقال، نُرافق الدكتور وهب رومية في بعضٍ من معارج رؤيته النقدية، نستجلي أثره، وننصت لصدى فكره في تاريخ النقد الأدبي العربي المعاصر.

وقد أصدر مجمع العربية السعيدة في الجمهورية اليمنية كتاب "وَهَب رُوميَّة، ذواقة الشعر والأدب" إحياء لذكرى الدكتور وهب الذي غادرنا من أشهر قليلة، علَم العربية في بلاد الشام وأحد أساطين جامعة دمشق العريقة في الأدب والنقد.

وقد أسهم في كتابة هذا السفر ثلة من أهل العلم، أكاديميين ومجمعيين ومثقفين وطلبة وأقارب ومحبين، من أمصار شتى، لما كان عليه الدكتور وهب من صلات وثيقة بالجامعات العربية والدولية، وأشرف على إخراجه الدكتور مقبل التام الأحمدي.

الناقد الذوّاق وأستاذ الأجيال

الدكتور وهب رومية من مواليد اللاذقية 1944، نال الإجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق 1967، ثم الماجستير من جامعة القاهرة 1974 بتقدير ممتاز، ودكتوراه دولة في الآداب "بمرتبة الشرف الأولى، مع التوصية بطبع الرسالة على نفقة الجامعة وتبادلها مع الجامعات" من جامعة القاهرة 1977.

إعلان

بدأ الدكتور وهب مسيرته التدريسية في جامعة دمشق 1978، امتدت حتَّى السنوات الأخيرة من حياته، انتقل خلالها من دمشق إلى صنعاء اليمن إلى الكويت ثم دمشق مرة أخرى، وكان عضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق ومحررا ورئيسا لعدد من المجلات، وكان أيضا باحثا محكما في عدد من المجلات والحوليات، وعضوا في لجان علمية في جامعات وهيئات علمية عربية عدة، من أبرزها لجنة تحكيم برنامج أمير الشعراء في الإمارات في موسمه الحادي عشر 2024-2025.

وله ثمانية كتب منشورة، منها "الرحلة في القصيدة الجاهلية" و"بنية القصيدة العربية" و"شعرنا القديم والنقد الجديد" و"الشعر والذاكرة، التناص بين الشعر الجاهلي والشعر العربي في القرن العشرين"، وله الكثير من الأبحاث المنشورة.

كان الدكتور وهب علَّامة نقد تمشي على قدمين، يختار من الشعر العربي أصفاه شعرية، وأثراه دلالة، فيحلله ويفككه ويؤوله، ويستنبط دلالاته بذهنه الوقاد وثقافته الأدبية الموسوعية، ثم يصوغه بأسلوب نقيٍّ ناصع البلاغة، حتَّى استحق لقب "الناقد الذواقة" عن جدارة واستحقاق.

وقد شارك في كتابة هذه المراثي والقراءات في نتاج الدكتور وهب ستون كاتبا، معظمهم تتلمذوا على يديه، ونهلوا من علمه، فأكثر معاصريه ومدرسيه قد سبقوه إلى دار الحق، إلَّا الدكتور مازن المبارك، عضو مجمع اللغة العربية ومدرس جامعة دمشق منذ 1960، بارك الله عمره، وقد درَّسه في الستينيات، وكان فيمن نعوه في حفل تأبينه بمجمع اللغة العربية في دمشق.

وعلى الرغم من تفاوت المشاركين في القرب من الدكتور وهب، من الأسرة إلى الزملاء، ومن الطلبة الملازمين إلى العابرين، فإنهم أجمعوا على أمور متحققة في شخصية الدكتور وهب، الأول مكانته العلمية البارزة في ميدان الأدب، والثاني بلاغته وحسن تصرفه في اللغة فهما ومعرفة وتعبيرا، والثالث فهمه العميق ونظره الثاقب في قراءة الشعر، والرابع فضله في تنمية عقول طلابه وإلهامه لمن حوله من الزملاء والطلاب وإرشاده لهم، والخامس تواضعه وحسن أخلاقه.

بصمة لا تُمحى في الأدب والنقد العربي

ففي سياق الثناء على مكانته العلمية يقول الدكتور مقبل -رئيس مجمع العربية السعيدة، وكان الدكتور وهب قد ناقش أطروحته للدكتوراه في جامعة دمشق-: "كانت أطروحتاه -الدكتور وهب- للماجستير والدكتوراه، "الرحلة في القصيدة الجاهلية" و"قصيدة المدح حتَّى نهاية العصر الأموي، بين الأصول والإحياء والتجديد" فتحا في قراءة الشعر العربي القديم، بُني على غير مثال أو معهود، فسُر بهذا الفتح النقاد وطلبة العلم أيما سرور، وسار بينهم محفوفا بالقبول والرضا والحبور، لأنَّه استند في أطروحتيه إلى قراءات متعمقة للنصوص بلغة باذخة آسرة".

ويقول أستاذه الدكتور مازن المبارك "ولعل الكتب التي تركها، والتي كانت تنشر أفكاره الأدبية والنقدية، والتي كانت تحكي قصة نجاحه الفكري وإتقانه موضوع اختصاصه في الأدب والنقد، وكانت تنشر علمه، وتذيع أفكاره في الأدب والنقد، حتى عمت في الجامعات العربية.. فلقد سمعَتْ صوتا في الأدب العربي، وفي النقد، وسمعت عن الشعر العربي ما لم تسمع من قبل..".

وأما في سياق بلاغته وفصاحة لغته، فيقول الدكتور محمد عبد الله قاسم عضو الهيئة التدريسية في جامعة دمشق "وقد سحرني بيانه سحرا أيَّ سحر، وانثيال الشعر القديم على لسانه انثيال المطر وانصبابه، ينقاد له انقياد النسيم للأنف يطاوعه أنى شاء".

إعلان

ويقول أيضا "توشك أن تكون دراسات الدكتور وهب نصوصا من البيان الذي ينبغي أن يدْرَس بأناة وروية، يغرف المرء من سحرها، ويتعلم نظم القول، بل إن الكلمة العالية التي حبَّرها الراحل الدكتور وهب في صديق عمره أستاذي الراحل الدكتور مسعود بوبو رحمه الله رحمة واسعة لَمِمَّا يقيد في عيون الدهر سماحة بيان، وإشراق عبارة، وصدق مشاعر..".

وفي سياق فهمه العميق ونظره الثاقب في الشعر يقول الدكتور مقبل "كان في محاضراته يحلّق بطلبته في عوالم من الخيال والجمال بعيدة، لا يعودون منها خماصا أبدا"، ويقول الدكتور عبد النبي اصطيف زميل الدكتور وهب وصديقه "فإنَّه كان يخرج دائما بتفسير رائع للنصوص الشعرية بشكل خاص، يتسم بالعمق والرحابة، ممَّا يجعلها نصوصا تتدفق، بل تفيض حياة متجددة، وكان يمضي منطلقا من عملية التفسير هذه إلى إقامة الشعرية أو النظام الأدب الخاص بها..".

ويقول الدكتور حسن الأحمد عضو الهيئة التدريسية في جامعة دمشق "نقرأ معه الشعر كما ينبغي له أن يقرأ، لا كما نتلقاه من أساتذتنا السابقين، فدخلنا معه في عوالم فريدة من التفاصيل، وبدأنا ندرك قيمة الكلمة وجوهر المعنى والسياق المتشعب الذي يحيط بالنص، من دون نظريات تتلى علينا، ومناهج لا نعرف كيف نوظفها في القراءة".

وفي سياق دوره في تنمية عقول من حوله وتعزيز العقل النقدي عند طلابه يقول الدكتور مقبل "وكان يرى من أولى المهمات للمعلم في الدراسات الدنيا والعليا أمرين، هما القدوة الحسنة وحسن التوجيه، أما المعلومة التي كان المعلم فيما مضى مصدرها، فقد غدت متوافرة في فضاءات شتى..".

وينقل عنه عدد من المشاركين مواقف يثني فيها على نظرات نقدية قُدمت بين يديه، يقول الدكتور محمد عبد الله قاسم "كان يحب العقل النقدي الذي لا يوثِّن الأشياء ولا يقدسها، بل يعمل العقل، ويجيل النظر، فيختار ما يوافق المنطق السليم الذي يقره العلم، ويطرح ما سواه".

وفي سياق تواضعه وحسن أخلاقه يقول الدكتور غياث بركات وزير التعليم العالي في سورية سابقا "ومن موقعي حين كنت وزيرا، رجوته أن يشرف على مواقع إدارية عرضتها عليه، لكنه كان يرفض باستمرار.. ويفضل أن يقدم وبسخاء من دون أن يكون بمنصب.. ولا أنسى فضله حين انتهت مهمتي وزيرا، وقررت بعد ثلاثة أيَّام من انتهاء المهمة أن ألتحق بالتدريس.. أذكر أنَّه أصر على مخاطبتي بسيادة الوزير، وأصر أنني أنا من يحدد الموعد.. فوجئت حين ذهبت إلى الكلية بأنه كان ينتظرني مع السادة نواب العميد آنذاك عند المدخل الخارجي للكلية..".

أخيرا، يقول الدكتور عماد الخلف الذي استقبل الدكتور وهب حين قدومه إلى أبو ظبي للمشاركة في برنامج أمير الشعراء "كانت عيني تأبى أن تزيل بصرها عن بوابة القادمين التي ستحمل إليَّ مَن أحمل بين جوانحي حبا جما لشخصيته الأصيلة المحتد النبيلة الأرومة، وإجلالا لا ثغور له لعلمه الغزير الذي أسداه إلينا أستاذا قديرا ومؤلفا بارعا لا يعتم أن يرتحل في مجاهيل الشعر العربي، مختارا منه أصفاه شعريا، وأثراه دلالة، عارضا إياه على محك نقد لا يرتضي إلا بتفكيك خيوط نسيجه تفكيكا تحليليا وتأويليا، لا يغادره قبل أن يودع في نفس قارئه شعورا مرضيا بالدلالات التي يبطِّنها النص الشعري، فيستبطنها وهب رومية بعقله النقدي الوقاد، وبثقافته الأدبية الموسوعية، وبأسلوبه الدفاق نهرا يمطرك به في كل جملة يسطرها قلمه النقي الناصع بلاغة جاذبة، حتى استحق لقب الناقد الذواقة عن جدارة لا يعتريها أدنى شك".

غادرنا الدكتور وهب رومية تاركا وراءه زادا علميا ينبض بالحياة، بل يمكن القول بلا مبالغة: لقد ترك وراءه أعمالا من شأنها إعادة تشكيل معالم النقد العربي الحديث.

0 تعليق