هناك منظوران لتقييم دور إسرائيل في المنطقة: الأول كقوة مهيمنة، والثاني كقوة تعديلية تعمل على إعادة تشكيل شرق أوسط على مقاسها. ولقد كان للضربة التي شنتها إسرائيل على قطر 9 سبتمبر/أيلول الجاري آثار معقدة، وفي بعض الأحيان متناقضة، على أدوارها المفترضة كقوة مهيمنة أو كقوة تعديلية.
توصَف القوة المهيمنة عادة بأنها "القوة العظمى الوحيدة في منطقة معينة"، ولا تواجه أي تحديات عسكرية خطيرة من دول أو مجموعات أخرى، وبالتالي فهي قادرة على تركيز سياساتها الخارجية والدفاعية في مكان آخر.
والأمر الحاسم هو أن الهيمنة الإقليمية المستدامة تتطلب من الدول المجاورة قبول وضعها، بل وحتى الترحيب به في بعض الأحيان.
أما القوة التعديلية، فيمكن فهمها من خلال أفعال إسرائيل وطموحاتها المعلنة كدولة تسعى إلى تغيير جذري في النظام الإقليمي القائم، أو توسيع نفوذها، أو تأمين مصالحها من خلال الاستخدام العدواني للقوة، وتجاهل الأعراف والمسارات الدبلوماسية الراسخة. ويشمل ذلك أهدافا مثل:
منع قيام دولة فلسطينية. توسيع حدود إسرائيل. فرض معادلة أمنية إقليمية جديدة تهيمن فيها إسرائيل عسكريا. استخدام الضربة لاستعراض قوتها وتأكيد موقفها الأمني العدواني الجديد بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول.ولكن كيف تؤثر ضربة قطر على هذين الدورين؟
بدت الضربة في البداية تأكيدا على هيمنة إسرائيل المتصوَرة واستعدادها للتصرف دون عقاب في جميع أنحاء المنطقة. وأعرب مسؤولون إسرائيليون، بمن فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، عن التزامهم بملاحقة قادة حماس "أينما كانوا".
وتم تصوير الضربة على أنها استعراض للتفوق العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي، بل إن بعض الروايات الإسرائيلية الداخلية أشارت إلى أن العملية "أعادت لإسرائيل قوتها وردعها".
ومع ذلك، فإن الضربة قوضت إلى حد كبير صورة إسرائيل ومزاعمها بأنها قوة مهيمنة مستقرة، فقد فشلت في تحقيق الأهداف المعلنة. أفادت التقارير أن الهدف الرئيسي، وهو كبار قادة حماس، نجوا من الهجوم. وبذلك فإن "ضربة الدوحة الفاشلة تبدِد الوهم بأن إسرائيل قادرة على استخدام القوة متى شاءت وأينما شاءت".
إعلان
كما أدت الضربة إلى تآكل القبول الدولي والإقليمي. إذ أثارت "غضبا" واسع النطاق و"إدانة حادة" من قطر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وجهات فاعلة عربية ودولية أخرى، بما في ذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وهذا يتناقض بشكل مباشر مع متطلبات قبول الهيمنة الإقليمية من قبل الجيران.
عززت الضربة الإسرائيلية في قطر تصورا عربيا جماعيا لإسرائيل باعتبارها دولة مارقة، مما أدى إلى اهتزاز الثقة في الأطر الأمنية القائمة بشكل عميق، وأدى إلى جهد متضافر لإعادة تقييم التحالفات الإقليمية والإستراتيجيات الدبلوماسية.
وقع الهجوم في قطر، الحليف الوثيق للولايات المتحدة، ومن حليف لها أيضا. أعربت القيادة الأميركية، بمن في ذلك الرئيس دونالد ترامب، عن "أسفها العميق" و"إحباطها"، بل وانتقدت الضربة علنا، وهي خطوة نادرة.
وقد أثار هذا تساؤلات جدية بين دول الخليج حول موثوقية الضمانات الأمنية الأميركية، ومدى قدرة الولايات المتحدة على كبح جماح إسرائيل. إن هذا التشكيك في موثوقية الضامن الرئيسي يضعف أساس القوة العسكرية المزعومة لإسرائيل.
بدلا من أن تؤدي الضربة بإسرائيل إلى تأمين موقعها كقوة مهيمنة، فإنها "زادت من عزلتها" ودفعت المنطقة نحو المزيد من عدم الاستقرار. كما دفع ذلك دول الخليج إلى التفكير في "تعزيز التعاون الدفاعي في مواجهة إسرائيل بدلا من الشراكة معها".
وعلى الرغم من فشل الضربة في تعزيز الهيمنة، فإنها تتوافق إلى حد كبير مع موقف إسرائيل كقوة تعديلية، مما يدل على نية واضحة لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي من خلال العمل العسكري العدواني وأحادي الجانب.
إن الضربة التي أعقبت هجمات سابقة في لبنان، وإيران، وسوريا، واليمن، تسلط الضوء على "الموقف الأمني العدواني الجديد" لإسرائيل و"شهيتها للمخاطرة"، مدفوعة بتصميم على "تغيير وجه الشرق الأوسط". وهذه هي السمة المميزة للدولة التعديلية.
استهدفت الضربة عمدا مفاوضي حماس أثناء مناقشتهم مقترح وقف إطلاق النار الذي تدعمه الولايات المتحدة. وهذا يشير إلى تفضيل تحقيق "النصر الكامل" من خلال الوسائل العسكرية، وإجبار حماس على "الاستسلام"، بدلا من التفاوض، وبالتالي تعزيز أهدافها القصوى في غزة.
إن الضربة التي وُجهت إلى دولة ذات سيادة وحليف للولايات المتحدة، وخاصة أثناء جهود الوساطة، كانت "انتهاكا استثنائيا وخطيرا للسيادة". وهذا يدل على استعدادها لتجاهل القانون الدولي والأعراف الدولية لتحقيق أهدافها، وهي سمة من سمات القوة التعديلية التي تسعى إلى العمل خارج الأطر القائمة.
إن الضربة تهدد بتقويض اتفاقيات أبراهام وجهود التطبيع الأوسع مع الدول العربية، والتي كانت تهدف إلى دمج إسرائيل في إطار أمني إقليمي جديد. ومن خلال زعزعة استقرار هذه الترتيبات، تسعى إسرائيل إلى تحقيق رؤيتها الخاصة الأكثر عدوانية للنظام الإقليمي.
وبالنسبة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فإن الضربة تخدم أيضا المصالح السياسية المحلية من خلال إظهار القوة والحزم، خاصة وسط الانتقادات الموجهة إلى إدارته للحرب، والدعوات إلى وقف إطلاق النار.
إعلان
الخلاصة: إن ضربة قطر تعزز وصف إسرائيل بأنها قوة تعديلية؛ بسبب طبيعتها أحادية الجانب والعدوانية والمتحدية للأعراف، والتي تهدف إلى تحقيق تحولات إستراتيجية كبيرة في المنطقة، وخاصة فيما يتعلق بمستقبل غزة والقضية الفلسطينية.
ومع ذلك، فإنها وعلى النقيض، تضعف مكانتها الفعلية كقوة مهيمنة، حيث فشلت في تحقيق هدفها العسكري المباشر، وأبعدت شركاء إقليميين ودوليين أساسيين، وكشفت عن حدود عملها غير المقيد، وخاصة فيما يتعلق بحليفها الذي لا غنى عنه، الولايات المتحدة.
وفي حين أن إسرائيل ربما كانت تنوي إظهار قدرتها وردع الهجمات المستقبلية بعد الضربة على قطر، فإن النتائج تشير إلى خسارة صافية في القوة الرادعة الشاملة، وخاصة في النفوذ الدبلوماسي والاستقرار الإقليمي، مما يؤدي إلى زيادة العزلة وانعدام الثقة بدلا من إعادة إرساء موقف رادع مستقر.
ديناميكيات إقليمية جديدة
أدت الضربة إلى إعادة تشكيل ديناميكيات القوة الإقليمية بشكل كبير وأثرت بشدة على الجهود الدبلوماسية، وخاصة تلك التي تهدف إلى حل الصراع في غزة.
لقد وجهت الضربة، ضربة قاسية لوقف إطلاق النار ومفاوضات تحرير الرهائن. وحطمت إحدى القنوات القليلة المتاحة لحل الصراع.
أعلنت قطر، الوسيط الرئيسي في صراع غزة بالشراكة مع مصر والولايات المتحدة، على الفور أن جهود الوساطة التي تبذلها "عقيمة في الوقت الحالي" بسبب الهجوم.
ويأتي هذا القرار نتيجة مخاوف جدية بشأن أمنها وقدرتها على المخاطرة، حيث قتل فرد أمن قطري في الضربة. وكانت قطر قد تلقت في وقت سابق تأكيدات من الاستخبارات الإسرائيلية والبيت الأبيض بأن مثل هذا الهجوم لن يحدث على أراضيها. أنهت الضربة فعليا وساطة قطر التي استمرت لسنوات.
الضربة تقوض بشدة مصداقية الولايات المتحدة كضامن للأمن والاستقرار بين حلفائها في الخليج. تستضيف دول المنطقة قواعد عسكرية أميركية. وقد أدى عجز الولايات المتحدة أو عدم رغبتها في منع هجوم من قبل حليف رئيسي آخر (إسرائيل) إلى تساؤلات واسعة النطاق حول الضمانات الأمنية الأميركية.
إن رد فعل الرئيس ترامب المختلط – الذي عبر عن استيائه بينما أشاد في الوقت نفسه بالسعي للقضاء على أعضاء حماس – زاد من تعقيد الموقف الأميركي.
أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بما في ذلك الولايات المتحدة، بيانا نادرا أعرب فيه عن "قلقه العميق" إزاء الضربة الإسرائيلية، وأدانها باعتبارها انتهاكا صارخا لسيادة قطر، وتهديدا لجهود الوساطة.
وتمثل الضربة الإسرائيلية في قطر تحولا كبيرا في النظرة الإقليمية لإسرائيل ودورها في الشرق الأوسط، إلى جانب التضامن المتجدد بين دول الخليج.
لقد عزز الهجوم الرأي القائل بأن إسرائيل تتصرف كقوة عسكرية مهيمنة غير مقيدة في المنطقة، ومستعدة لاستخدام القوة بشكل عدواني حتى على حساب العلاقات الدبلوماسية.
هذا التصور يشكك في دورها المحتمل كـ"شريك أمني" ضد تهديدات مثل إيران، بل يضعها بدلا من ذلك كمصدر لعدم الاستقرار الإقليمي المستمر وتهديد لجيرانها، بما في ذلك الدول التي لديها معاهدات سلام قائمة.
أثارت الضربة إدانة واسعة النطاق من كل دول الخليج، التي نددت بها باعتبارها انتهاكا للقانون الدولي والسيادة القطرية. ومن الجدير بالذكر أنها عززت الوحدة والتضامن بين دول الخليج.
على سبيل المثال، زار رئيس الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان الدوحة على الفور للتعبير عن دعمه، وكان من المتوقع أيضا أن يزور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. وهي وحدة مدفوعة باهتمام مشترك بالسيادة والأمن الجماعي لدول الخليج.
ويهدد الهجوم بتقويض الإطار الهش لاتفاقيات أبراهام وجهود التطبيع الأوسع بين إسرائيل والدول العربية. أظهرت الضربة أن اتفاقيات التطبيع لا تقيد بالضرورة الأعمال العدوانية، حتى بين الشركاء المفترضين.
إعلان
كما أن الرفض الشعبي المتزايد للتطبيع بين الشعوب العربية؛ بسبب العدوان الإسرائيلي، يقيد بشكل أكبر رغبة القادة العرب في التعامل مع إسرائيل.
بالتأكيد، ستعيد دول الخليج تقييم اعتمادها الأمني على الولايات المتحدة. وقد أدت الضربة، التي أعقبت هجمات سابقة للمليشيات الحوثية على منشآت نفطية سعودية، بالإضافة إلى ضرب إيران قاعدة العديد القطرية، إلى تكثيف الشكوك حول موثوقية واشنطن كضامن أمني. وقد يدفع هذا دول الخليج إلى السعي إلى تحالفات عسكرية متنوعة، ربما مع قوى مثل تركيا، وباكستان، والمطالبة بضمانات أمنية أكثر رسمية وقوة من الولايات المتحدة.
كان للضربة تأثير على الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى. فقد شكلت تحذيرا مباشرا لتركيا ومصر، اللتين تستضيفان أيضا قادة حماس، مما يثير المخاوف من أن إسرائيل قد توسع عملياتها إلى الأراضي التركية أو المصرية.
إن هذا التصعيد، إلى جانب التوترات الإسرائيلية التركية القائمة بشأن سوريا، والمصرية بشأن التهجير، قد يؤدي إلى صراع كارثي أوسع نطاقا له تداعيات عالمية، مما يؤدي إلى تعطيل تحالفات حلف شمال الأطلسي بالنسبة لتركيا، ومعاهدة السلام بالنسبة لمصر.
إن ضربة الدوحة هي جزء من اتجاه أوسع نطاقا لتعميق التدخلات العسكرية الإسرائيلية في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك الصراع مع إيران.
يؤثر موقف إسرائيل العدواني واستهدافها خصومها في الخارج أيضا على إستراتيجيتها ضد حزب الله في لبنان، حيث تواجه الجهود التي تدعمها الولايات المتحدة لنزع سلاح الجماعة مقاومة قوية؛ بسبب الدور الدفاعي المفترض لحزب الله ضد إسرائيل ونفوذه السياسي.
لم تؤدِ الضربة الإسرائيلية في قطر إلى توقف الجهود الدبلوماسية الحاسمة لوقف إطلاق النار في غزة فحسب، بل أدت أيضا إلى تغيير ديناميكيات القوة الإقليمية بشكل جذري من خلال تكثيف عدم ثقة الدول العربية في إسرائيل والولايات المتحدة، وتعزيز التضامن بين دول الخليج، وربما إثارة إعادة تنظيم خطيرة للإستراتيجيات الأمنية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
وتمثل القمة العربية الإسلامية المزمع عقدها الأحد والإثنين 14 و15 سبتمبر 2025 بالعاصمة القطرية الدوحة منعطفًا حاسمًا للمنطقة لمعالجة التحولات الجيوسياسية العميقة التي تحاول أن تفرضها إسرائيل وحلفاؤها، وإعادة تعريف موقفها الأمني الجماعي، وتخطيط مستقبلها الدبلوماسي.
من المرجح أن تستكشف هذه القمة ردود الفعل المختلفة من الدول المشاركة وفي مقدمتها دول الخليج، بما في ذلك السعي إلى اتخاذ إجراءات قانونية دولية ضد إسرائيل، وفرض عقوبات اقتصادية، وتعزيز التحالفات العسكرية، وإعادة التوازن للشراكات السياسية مع القوى العالمية الأخرى مثل الصين وروسيا.
وأخيرا؛ فهل بات على المجتمعين أن يدركوا بعد ضرب قطر أن الحرب الدائرة منذ عامين لم تكن بين حماس وإسرائيل كما سعي البعض لتصويرها؟، فالطوفان كان لحظة كاشفة وليست منشئة لحالة التوحش الإسرائيلي التي لن تكون الدوحة آخر حلقاتها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
0 تعليق