كولومبو – بتوابلها التي تعزز نكهة الطعام، وأحجارها الكريمة التي تخطف الأنظار، كانت سريلانكا الواقعة على الطريق الحريري البحري تشتهر في العالمين العربي والغربي منذ العصور القديمة. ومع مرور الزمن، وبشكل خاص منذ أوائل القرن الـ19، انضم الشاي إلى قائمة مواردها ليصبح رمزا لاسمها، ويعزز شهرتها في أنحاء العالم.
ويُعد الشاي ثاني أكبر صادرات البلاد بعد الملابس الجاهزة، إذ حققت سريلانكا 1.43 مليار دولار من عائدات تصدير الشاي في عام 2024، بحسب التقرير السنوي لمجلس تنمية الصادرات السريلانكي. ووفقا لجمعية مصدري الشاي في سريلانكا، كان العراق أكبر مستهلك للشاي السريلانكي، تليه روسيا، والإمارات، وتركيا، والصين، وأذربيجان، وإيران، وليبيا، والسعودية.
لكن رغم هذه المكانة المرموقة، يجهل كثيرون من يزرع الشاي السريلانكي ويحضّره للتصدير، وما يعانيه هؤلاء العمال من أوضاع حياتية قاسية. في هذا السياق، زارت الجزيرة نت مزارع الشاي في منطقة نواراليا بوسط سريلانكا، كما التقت عددا من العاملين في هذا القطاع.
إرث استعماري وجذور تاريخية
وترجع أصول زراعة الشاي في سريلانكا إلى العصر الاستعماري البريطاني في القرن الـ19. حينئذ وجد البريطانيون أن طقس المناطق الوسطى صالح لهذه الزراعة، فقاموا بإدخالها إلى البلاد، وجلبوا العمال من التاميل الهنود للعمل في مزارع الشاي والمطاط. وهؤلاء يختلفون عن التاميل الأصليين الذين يقطنون سريلانكا منذ قرون، ويُفضّل أن يُطلق عليهم اسم "التاميل الجبليين" لارتباطهم بالمناطق الوسطى الجبلية.

يتبع معظم التاميل الجبليين الديانة الهندوسية، بينما ينتمي عدد قليل منهم إلى المسيحية. وبحسب لاكشمي ويلوسامي ويراسينغام، الناشط الحقوقي من التاميل الجبليين، فقد جلب البريطانيون مئات آلاف العمال من الهند إلى سواحل سريلانكا عام 1823، وأُجبروا على السير إلى المناطق الوسطى لبدء العمل في المزارع.
إعلان
وأوضح ويراسينغام -للجزيرة نت- أن هؤلاء التاميل أسّسوا المدن والقرى في المناطق الوسطى خلال الحقبة الاستعمارية، ولعبوا دورا محوريا في تنمية الاقتصاد السريلانكي.
وبعد رحيل البريطانيين عام 1948، استقر التاميل الجبليون في البلاد، ليصبحوا رابع أكبر عرقية فيها، مشكلين 5% من إجمالي السكان البالغ 22 مليون نسمة. وبعد مرور قرنين على وصولهم، ما زال معظم العاملين في قطاع الشاي منهم، بينما ظلت ظروفهم المعيشية على حالها من دون تطور يُذكر.
مواطنة ناقصة وهوية غائبة
ورغم أنهم يمثلون 5% من سكان سريلانكا، لم يكن طريق التاميل الجبليين إلى المواطنة سهلا. فمنذ استقلال البلاد عام 1948 حتى توقيع الاتفاقية الهندية السريلانكية عام 1987، عاش هؤلاء بلا حقوق مواطنة مكتملة.
وخلال تلك العقود، وفقا لحديث ويراسينغام، تعرض التاميل الهنود لأشكال متعددة من الاضطهاد؛ إذ لم تُوفّر مدارس لأطفالهم، وحُرم أبناؤهم من دخول الجامعات الحكومية أو التوظيف في القطاع العام، كما هُجّر أكثر من نصف مليون منهم إلى الهند عام 1964.
وأشار الناشط الحقوقي إلى أن الحكومة حتى اليوم لا توفر للعاملين في مزارع الشاي عناوين رسمية لمنازلهم، رغم أنهم هم من أعطوا الشاي السريلانكي عنوانا عالميا. والمراسلات الخاصة بهؤلاء تُرسل غالبا إلى شركات الشاي بدلا من منازلهم.
وفي حديثها للجزيرة نت، قالت كلياني ساراسواتي، إحدى العاملات في مزارع الشاي: "لا نمتلك البيوت التي نسكنها، فجميعها مملوكة لشركات الشاي. في بيتنا الصغير تعيش أسرتي مع أسرة أختي، ولا نملك المال الكافي لشراء منزل مستقل".
رواتب متدنية وأعباء اجتماعية
تحدثت ساراسواتي أيضا عن واقع الأجور قائلة: "إذا قطفنا 20 كيلوغراما من أوراق الشاي يوميا نحصل على 1350 روبية (4.48 دولارات)، أما إذا قلّ ما نقطفه ينخفض الأجر تلقائيا. وعندما يتراجع الحصاد بفعل عوامل طبيعية، فإن رواتبنا تنخفض مباشرة".

وفي السياق ذاته، لفت ويراسينغام إلى أن التكنولوجيا الحديثة في بلدان مثل الهند وإندونيسيا والصين ساعدت العمال هناك على تحسين دخولهم، بينما لا تزال مزارع الشاي في سريلانكا تعتمد الطرق التقليدية، وذلك ما يفاقم ضآلة الأجور.
أما ساراسواتي فأشارت إلى انعكاسات الفقر قائلة إن "الفقر في مجتمعنا يؤدي إلى مشكلات اجتماعية بينها إدمان الخمر، وأحيانا يشربه حتى الصغار." وأضافت أن "الأطفال لا يهتمون بالتعليم بالقدر الكافي، لكن الأساتذة يبذلون جهدا كبيرا لتعليمهم. نحن نريد مستقبلا منيرا لأبنائنا، ولا نرغب أن يعملوا في المزارع مثلنا".
ومن جانبه، أكد ويراسينغام أن بُعد المدارس عن مساكن العمال، إلى جانب ضعف وسائل النقل العام، يشكل أحد الأسباب التي تحول دون انتظام الأطفال في التعليم.
وبين مزارع الشاي الخضراء التي تصدر أوراقها إلى أنحاء العالم، يعيش آلاف العمال في صمت، يقطفون بيدٍ ما يشتهيه العالم، بينما اليد الأخرى تهدهد أحلاما مؤجلة. ورغم مرور قرنين على إسهامهم في بناء اقتصاد سريلانكا، لا تزال أوضاعهم المعيشية وحقوقهم الأساسية تنتظر الاعتراف المنصف.
إعلان
0 تعليق