تبدو إسرائيل شديدة التناقض، ولو ظاهريا، بين ما تريده وما تستطيع فعله في قطاع غزة. فالقيادة السياسية تعلن صباح مساء نيتها في احتلال مدينة غزة وإلحاق هزيمة تامة بحماس، ولا تخفي حتى نواياها في تهجير الفلسطينيين طوعا وقسرا، وحتى إن بعضها يعلن نيته أيضا الاستيطان فيها.
والجيش الإسرائيلي، الذي كان على الدوام مقاول تنفيذ المخططات السياسية، يتحدث عن أن احتلال غزة هو "فخ"، وأن تنفيذ الخطط يعني الغرق في أوحال القطاع، خصوصا أن الجيش منهك وبحاجة إلى إنعاش وصيانة ومراجعة أولويات. وشهد آخر اجتماع للكابينت تبادل اتهامات وسجالا بين رئيس الأركان الجنرال إيال زامير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، حمل فيه الأول على الأخير بأنه لا يعرف الفارق بين الكتيبة واللواء.
وبحسب القناة 12، فإن النقاش احتدم أثناء مناقشة عملية احتلال غزة، قبل إنجاز مهمة إخلاء نحو مليون فلسطيني، إذ أوضح رئيس الأركان "لا نعرف كم من الوقت سيستغرق إخلاء السكان. لا نعرف مستوى التعاون والوسائل التي سنستخدمها. من الصعب تحديد جداول زمنية دقيقة". فرد عليه سموتريتش "لقد وجّهناك لاتخاذ إجراء سريع. من جهتي، ستُتوّجهم: من لا يخرج، لا تُعطِهم ماءً ولا كهرباء، دعهم يموتون جوعًا أو يستسلمون. هذا ما نريده وأنت قادر على فعله". وانضم إليه وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير قائلًا: ماذا؟ هل أنتم خائفون من "المدعية العسكرية العامة"؟.
ولم يتدخل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، ولا وزير الدفاع إسرائيل كاتس في هذا النقاش. وتحدث نتنياهو والوزير رون ديرمر عن طول "الحبل السياسي" الذي تملكه إسرائيل. وأوضح الاثنان أن "الرئيس ترامب يمنحنا كل الدعم، لكن لا نملك وقتا لا نهائيا، (..) العمل لمدة 6 أشهر غير ممكن. ترامب يريد عملًا سريعا وحاسما، ولا يريد إطالة أمد الحرب".

تقليص الجداول
ورغم أن إعادة احتلال غزة وتدميرها، وفق ما أعلن من مخططات، يتطلب من الجيش الإسرائيلي ما يقرب من عام، فإن القيادة السياسية تطالب بتقليص الجداول الزمنية. فحرب لمدة عام آخر تزيد ليس فقط حجم الكارثة الاقتصادية التي تعيشها إسرائيل، ولا الكارثة السياسية الدولية، وإنما أيضا ما يعانيه الجيش الإسرائيلي ذاته من تفكك وتراجع.
إعلان
وثمة بين العسكريين من يرون أن الجيش الذي فشل في تحقيق أهداف "عربات جدعون الأولى"، سوف يمنى بمزيد من الخسائر وسيفشل في تحقيق أهداف "عربات جدعون الثانية". وفي نظر هؤلاء، يجد قادة الجيش الإسرائيلي صعوبة في فهم معنى حرب العصابات الحديثة. إذ "يتحدث كبار القادة الإسرائيليين في الميدان وفي المناصب العليا عن مقاومين خائفين يفرون من الجيش الإسرائيلي، لكنهم ببساطة لا يفهمون حرب العصابات التي تشنها حماس، التي لا تسعى إلا إلى الانتقام والاختفاء وتستخدم القوة النارية التي يستخدمها الجيش في قطاع غزة لتوريط إسرائيل في العالم".
وبحسب ما ينشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن الجيش وفق ما يقع من أحداث، خصوصا العمليات التي وقعت في بيت حانون وجباليا والزيتون وخاني ونس ورفح، يواجه جملة مشاكل يصعب حلها في وقت قريب. فالجيش البري يعاني من إنهاك واسع، ومعداته تحتاج إلى صيانة، كما أن الروح القتالية لجزء من جنوده، تراجعت بشكل كبير.
وتعتقد قيادة الجيش أن برنامج الحملة الذي يبدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، يسمح لفصائل المقاومة بالتخندق والاستعداد في أنفاق مدينة غزة، مما يجعل ما جرى حتى الآن من مقاومة مجرد جزء يسير مما سيحدث.
وصرح مصدر عسكري إسرائيلي لشبكة "سي إن إن" الأميركية بأنهم "يعلمون أننا قادمون ولذلك هم يستعدون"، في وقت أن الجيش غير متأكد من عدد المقاومين الباقين، ولا يعرف بدقة شبكة الأنفاق في المدينة، والتي هي "أكثر تعقيدا مما توقعنا". وإذا أخذنا بالحسبان ما جرى في آخر عملية اقتحام لموقع عسكري إسرائيلي في خان يونس حيث كانت فتحات النفق على بعد 40 مترا فقط من الموقع، نعرف حجم المصاعب التي تعترض الجيش في غزة.
وبحسب تحقيقات الجيش الأولية، استغرق الأمر حوالي ثلاث ساعات من لحظة خروج مسلحي حماس من فتحة النفق، التي تبعد حوالي 40 مترًا عن الموقع العسكري، حتى انتهاء الحادث. ويعترف الجيش بأنه رغم وجود معلومات استخباراتية شاملة حول الأنفاق في قطاع غزة، فإنهم لم يعثروا عليها جميعًا بعد.
وتوجد قوات من وحدات مختلفة من الجيش الإسرائيلي في المنطقة التي وقعت فيها الحادثة منذ عدة أسابيع. وقد خرج مسلحون من فتحة النفق المذكور، ودخلوا الموقع الذي تمركزت فيه قوة من لواء كفير، وبدؤوا بإطلاق نيران الرشاشات والصواريخ المضادة للدبابات على القوات. أصيب ثلاثة جنود، أحدهم بجروح خطيرة واثنان بجروح طفيفة، وبدا أن المهاجمين كانوا يستعدون لأسر جنود.

المعلومات الاستخبارية
وكتب المراسل العسكري لـ"يديعوت" يوآف زيتون أن المعلومات الاستخبارية التي لدى الجيش الإسرائيلي تشير إلى أن حماس استأنفت بناء الأنفاق والبنية التحتية تحت الأرض حتى في المناطق التي أجرى فيها الجيش مناورات سابقة. ويقدر الجيش وجود أنظمة تحت الأرض كبيرة ومهمة لحماس في مدينة غزة، بعضها لم يُكشف في المناورة الأولى في المدينة قبل حوالي عام ونصف العام، وسيكون التحدي تحت الأرض أكثر خطورة للقوات في حال إجراء مناورة أخرى هناك.
إعلان
وقال مسؤول في الجيش ليديعوت "القتال لمدة عامين في غزة أمر معقّد وصعب. معنويات المقاتلين واحترافيتهم عالية للغاية، لكننا نتعامل مع عواقب قتالٍ ممتد لعامين متتاليين". ويقر كثيرون بأن هجوم خان يونس لم ينتهِ بكارثة، لكن الكابوس الحقيقي ينتظر الجيش في غزة. فغزة فيها أعلى كثافة بنائية وبعمارات وأبراج عالية، وهدمها -عدا عن الوقت الطويل الذي يتطلبه- يوفر غطاء هاما للأنفاق وفتحاتها. والفشل الاستخباري الذي ظهر في خان يونس، سوف يتكرر في غزة وربما بوتائر أعلى.
كما أن تجربة خان يونس أظهرت أنه رغم سيطرة الجيش على المدينة و"تطهيرها" ثلاث مرات، فإن ذلك لم يمنع استمرار وجود أنفاق ومقاومين فيها. وحسب مصدر إسرائيلي "هكذا تبدو حرب العصابات. جيشٌ كبير يتمركز في خلية ميدانية، في حين يتحرك الإرهابيون عبر الأنفاق. يخرجون، وينفذون هجومًا ثم يختفون". وهذا بالضبط الكابوس الذي يخشاه الجيش الإسرائيلي بشدة في غزة، فالجيش الذي يبقى في أرض يحتلها لفترة طويلة، يفتقر للمزايا التي توفرها لمقاتلي حرب العصابات.
وفي مقالة لمراسل القناة 12 شاي ليفي، يعرض لسوء فهم قادة كبار وصغار في الجيش الإسرائيلي لمبادئ حرب العصابات التي تعتمد مبدأ "اضرب واهرب"، وهو أمرٌ الجيش الإسرائيلي ليس مؤهلا له. ويعتقد أن سوء الفهم هذا يؤثر بشكل مباشر على عملية صنع القرار وعلى الإستراتيجية والنتائج النهائية. وهو يرى أن الجيش الإسرائيلي دمر منظومات حماس العسكرية من قيادات وأدوات وهياكل التي كانت أشبه بمنظومات جيش. لكن الحرب استمرت وحماس غيّرت أسلوبها: بدلا من جيش كبير غدت منظمة عصابية. وغدا تمركز الجيش الإسرائيلي في مواقع ثابتة سمة ضعف وليس عنصر قوة.
جبهة بلا خطوط
وأشار إلى أن عقيدة الجيش الإسرائيلي القتالية المعتمدة على مبادئ الحركة السريعة وإطلاق النار الكثيف وغزو الأراضي، تجد صعوبة في التعامل مع واقعٍ يفتقر إلى خط جبهة واضح، ويعمل فيه العدو في مساحة مدنية كثيفة مليئة بالدمار والبنية التحتية تحت الأرض.
مبادئ حرب العصابات هي الاختباء، وتحديد نقاط الضعف، ثم الاختفاء بسرعة. وبسرعة صار الجيش يقيس نجاحاته بإحصاء جثث أعدائه من دون أن يؤثر ذلك على مجرى الأمور. فالهدف ليس تحييد أفراد، وإنما في الأصل كسر إرادة القتال عندهم.

ويرى شاي ليفي أن هناك في الجيش الإسرائيلي بشكل عام، من أعلى المستويات إلى أدنى المستويات، انفصاما يُذكّرنا بالجنرالات الأميركيين في حرب فيتنام. فقادة الجيش الإسرائيلي يعرضون صورة وردية، لكنهم ببساطة منفصلون عن الواقع الصعب والمعقد على الأرض بشكل عام. وهذا يُعطي الجمهور الإسرائيلي ذروة الفرح والشعور بالنصر، الذي ينفجر على أرض الواقع، ومرة أخرى لا نفهم -على سبيل المثال- كيف بعد عامين، تُهاجم فصيلة من حماس موقعا للجيش الإسرائيلي أو حتى تُفكر في الأمر.
ويوضح المقدم (احتياط) ألون إيفياتار، الخبير في الشأن الفلسطيني، في حوار على إذاعة "إف إم 103" أن حماس "تلقت ضربة موجعة، وهي تعمل وفق نمط مختلف. فقد تطورت من جيش صغير إلى حرب عصابات خالصة، وتعمل من منطق حرب عصابات. بفضل وحداتها داخل الأنفاق، تتمكن من تسليح نفسها، والسيطرة على المتفجرات، ومن وجهة نظرها، إذا قررت إسرائيل دخول قطاع غزة، فستحرص على محاصرته بطريقة تُنهك إسرائيل. ستتخبط إسرائيل في دمائها. ومن وجهة نظرها، القطاع مجرد وحل غزّي، وإذا دخلت إسرائيل، فستدفع الثمن". وفي نظره "حماس ليست خائفة من دخول الجيش الإسرائيلي إلى غزة"، فقد وجّهوا رسالة "إذا قررت إسرائيل دخول مدينة غزة، فحماس تنتظرها هناك".
لبننة
أما الرئيس السابق لشعبة العمليات الجنرال (احتياط) إسرائيل زيف فحذر في حوار على إذاعة إف إم 103″ من أنه يُلاحظ تغييرًا في نمط عمل حماس. وقال "هذا بالضبط ما تسمّى بـ"لبننة" الوضع في غزة. هناك نوع من عدم الوضوح فيما يتعلق بمسألة عدم وضوح الهدف، ونتيجةً لذلك، تبقى القوات في حالة مؤقتة باستمرار. الدفاع غير مُنظّم ولا يوجد زخم للهجوم".
إعلان
وبحسب زيف "ما نراه أمام أعيننا هو حماس جديدة، حماس تتعافى من الضربة التي تلقتها من الجيش الإسرائيلي. حماس تُعيد تنظيم نفسها كما بدأت كمنظمة إرهابية، منظمة حرب عصابات". من وجهة نظره، هذا تغييرٌ نتج عن أفعالنا. اليوم، نتعامل مع نوع من صنع أيدينا، "بمجرد أن لا تُغير النتيجة وضع الحكم هناك، ستُسبب الفوضى في ما يلي. الأمر لا يقتصر على حماس فحسب، بل هناك جماعات مسلحة أخرى لا تُقاتل إسرائيل حاليا".

عموما، من المؤكد أن إسرائيل تبحث في كل الاتجاهات عما يمكن أن يقلص من آثار حرب العصابات على جنودها. ولكن في ظل وضع فيه آلاف الذخائر الإسرائيلية غير المنفجرة التي يعيد الفلسطينيون استخدامها، وآلاف الشباب الناقمين على الاحتلال، وسد إسرائيل آفاق أي تسوية أو حكم مقبول، فإن النتيجة الطبيعية هي مقاومة مستمرة. وحرب العصابات تعتمد بشكل كبير على دوافع وأهداف نفسية وإعلامية مؤثرة ميدانيا، وفي الأساس على الجنود ومعنويات الجمهور الإسرائيلي وما تثيره من جدل عام.
وعندما يترافق هذا مع أشكال المقاطعة السياسية والاقتصادية والملاحقات القانونية، فإن فرص الضغط على إسرائيل لإنهاء الحرب من دون شروطها تزداد. وأخيرا فإن حرب العصابات إذا ما تطورت، وليس فقط في قطاع غزة، فإنها تشكل النقيض لعقيدة القتال الإسرائيلية القائمة على الضربات الخاطفة والحرب السريعة.
0 تعليق