عاجل

معركة ملاذكرد.. لماذا يزور أردوغان ساحتها كل عام؟ - زاجل الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يُولي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أهمية رمزية خاصة لمعركة ملاذكرد التي وقعت عام 1071م بين السلاجقة والبيزنطيين، باعتبارها لحظة تأسيسية ترمز إلى بداية الوجود التركي الإسلامي في الأناضول، ولا يربط أردوغان المعركة بشكل مؤسسي مباشر مع الجمهورية التركية الحديثة، لكنه يوظفها سياسيا وثقافيا لإبراز الجذور التاريخية العميقة للأمة التركية، وتأكيده أن الدولة التركية المعاصرة ليست انقطاعا عن الماضي، بل امتداد له.

ففي خطابه السياسي يقدّم أردوغان معركة ملاذكرد بوصفها نقطة تحوّل ديموغرافي وثقافي مهّدت لترسيخ الهوية التركية في المنطقة، ويرى أن هذا الانتصار يعكس قدرة الأمة التركية على المقاومة والبناء، ويعمل على ترسيخ هذه الروح في الوجدان العام من خلال الاحتفاء السنوي بالمعركة، بمشاركة شخصيات سياسية بارزة كزعيم الحركة القومية دولت بهتشلي، في محاولة لإحياء شعور جماعي بالفخر والانتماء.

اقرأ أيضا

list of 2 items end of list

كما يندرج هذا الاهتمام ضمن مساعي أردوغان لإعادة الاعتبار للتاريخ العثماني والسلجوقي، في مقابل سردية الهوية العلمانية التي تبنَّتها الجمهورية في بداياتها، ومن خلال استحضار رمزية ملاذكرد، يسعى أردوغان إلى بناء خطاب قومي موحد يتجاوز الانقسامات، ويؤكد أن تركيا المعاصرة ليست مجرد نتاج حدود مرسومة بعد الحرب العالمية الأولى، بل وريثة حضارات كبرى تملك مشروعا سياسيا مستقلا وهويّة ممتدة في الزمان والمكان.

ولكن ما معركة ملاذكرد؟ وأين وقعت؟ ولماذا تُعد واحدة من أهم المعارك في التاريخ العالمي والإسلامي خاصة؟ ولماذا هذا الاهتمام التركي الرسمي بها بصورة سنوية؟

AUGUST 26, 2019 - 03:58 PM topshot  -  turkey  -  history  -  politics  -  anniversary Mus, Turkey HANDOUTTURKISH PRESIDENTIAL PRESS SERVICEAFP TOPSHOT - A handout picture taken and released on August 26, 2019 by the Turkish Presidential Press service shows Turkish President Recep Tayyip Erdogan posing for a photo at the historical Seljuk cemetery in the Ahlat district during a ceremony to mark the 948 th anniversary of the Battle of Manzikert in Mus, eastern Turkey. / AFP / TURKISH PRESIDENTIAL PRESS SERVICE / Handout / RESTRICTED TO EDITORIAL USE - MANDATORY CREDIT
المقبرة السلجوقية التاريخية في منطقة أخلاط خلال احتفال بذكرى مرور 948 عامًا على معركة ملاذكرد في موس، شرق تركيا في 26 أغسطس/آب 2019 (الفرنسية)

الطريق إلى ملاذكرد

لقد لعب السلاجقة الأتراك القادمون من وسط آسيا دورا محوريا في إحياء الدولة العباسية التي كانت تعاني من الهيمنة البويهية الشيعية خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، حيث تمكنوا من توحيد أقاليم العراق وإيران ووسط آسيا وشمال الشام تحت سلطتهم، مما أعاد للدولة العباسية أهميتها الجغرافية والعسكرية.

إعلان

وقد تبنى السلطان ألب أرسلان مشروعا واضحا توسعيا يقوم على تحقيق الوحدة السياسية والثقافية ومواجهة الروم البيزنطيين في الأناضول مواجهة مباشرة، بديلا عن أسلوب الغارات المحدودة التي اتبعتها قبائل تركمانية سابقة، وكان البيزنطيون مع ضعف العباسيين بدأوا في تشكيل تهديد خطير في مناطق شمال الشام وإيران وغيرها.

وفي تلك الأثناء كان الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجينيس يتابع عن كثب عبر أجهزته الاستخباراتية تحركات السلاجقة وتوسعهم في مناطق الحدود مع دولته، خصوصا في شمال الشام والعراق وأرمينية وأذربيجان وجورجيا، وبعد أن بسط السلطان ألب أرسلان سيطرته على حلب وقضى على التهديد البيزنطي في بلاد الشام وعاد إلى مقر حكمه في إيران وتفرق جيشه للراحة، رأى ديوجينيس أن الفرصة سانحة لتوجيه ضربة حاسمة للسلاجقة قبل أن يشتد نفوذهم ويُشكِّلوا تهديدا مباشرا على الكيان البيزنطي في الأناضول.

فأعدَّ حملة عسكرية ضخمة وُصفت في بعض المصادر بأنها أشبه بحملة صليبية جمعت نحو مئتي ألف مقاتل من الروم والروس والفرنج والأرمن وغيرهم، حيث تشير بعض الروايات إلى أن الجيش تحرك بزينة وعتاد كبيرين، وقصد بلاد المسلمين حتى بلغ ملاذكرد في أقصى شرقي الأناضول، وعندما بلغ الخبر السلطان ألب أرسلان أثناء وجوده في خوى بأذربيجان عائدا من حلب فوجئ بضخامة الحملة، ولم يكن قادرا على جمع جيشه كاملا بسبب تفرُّق العساكر وبُعد المسافة وقُرب العدو.

تحرك السلطان ألب أرسلان على عجل لمواجهة الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجينيس بعد أن استولى هذا الأخير على مدينة ملاذكرد الواقعة في منطقة موش شرق تركيا حاليا.

كان ألب أرسلان رجلاً صالحاً أخذ بأسباب النصر والتمكين المعنوية والمادية، فكان يُقرب العلماء ويأخذ بنصحهم
تبنى السلطان ألب أرسلان مشروعا واضحا توسعيا يقوم على تحقيق الوحدة السياسية والثقافية ومواجهة الروم البيزنطيين في الأناضول مواجهة مباشرة (ويكيبيديا)

ولم يكن هدف رومانوس التمركز في ملاذكرد فحسب، بل كان يسعى لاختراق حدود المسلمين عبر الجزيرة الفراتية شمال العراق، والتقدم نحو العمق الإيراني لضرب السلاجقة في مركز دولتهم وربما السيطرة عليها بالكامل، وقد أدرك ألب أرسلان أبعاد هذه الخطة، وكان حينها قد بلغ أذربيجان على رأس قوة لا تتجاوز خمسة عشر ألف مقاتل.

يشير المؤرخ ابن الجوزي في تاريخه المنتظم إلى أن ألب أرسلان عبّر عن قلقه حين رأى حجم الجيش البيزنطي، فبادر إلى إرسال طلب صلح إلى الإمبراطور رومانوس، في خطوة هدفت إلى كسب الوقت حتى تصل الإمدادات العسكرية ويكتمل عدد قواته.

غير أن رومانوس رفض عرض الصلح متمسكا بخياره العسكري، ومُصِرًّا على متابعة التقدم دون تأخير، قائلا: "إني قد أنفقت الأموال الكثيرة، وجمعتُ العساكر الكثيرة، للوصول إلى مثل هذه الحالة، فإذا ظفرت بها، فكيف أتركها؟! هيهات! لا هدنة إلا بالرّي (عاصمة السلاجقة)، ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثل ما فَعل (ألب أرسلان) ببلاد الروم".

وأمام هذا الخطر أدرك السلطان ألب أرسلان أن انتظار الإمدادات من العراق أو إيران سيستغرق وقتا طويلا، وقد يؤدي إلى خسارة مناطق إسلامية واسعة في حال التباطؤ في الرد، فاختار المواجهة المباشرة، رغم الفارق الكبير في عدد القوات، وقرر خوض المعركة بجيشه الصغير الذي لا يتجاوز خمسة عشر ألف مقاتل، ضد جيش بيزنطي يُقدَّر بمئتي ألف.

إعلان

وقد نقل المؤرخ الأصفهاني في كتابه "تاريخ آل سلجوق" هذا القرار الشجاع بقوله: "رأى السلطان أنه إنْ تمهّل لحشد الجموع ذهب الوقت، وعظُم البلاء، وثقلت أعباء العباد، فركب في نخبته، وتوجّه في عُصبته وقال: أنا أحتسب عند الله وإن سعدتُ بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل النسور الغبر رمسي، وإن نُصرتُ فما أسعدني وأنا أُمسي ويومي خير من أَمسي".

كما يورد المؤرخ ابن الأثير في تاريخه الكامل مشهدا يعكس دور العلماء في رفع معنويات الجند، إذ لما رفض الإمبراطور طلب الهدنة بدا الانزعاج على وجه السلطان، فخاطبه إمامه وفقيهه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي قائلا: "إنك تقاتل عن دين وعدَ الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتبَ باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال بالساعة التي تكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة".

هزيمة البيزنطيين

تقبّل السلطان ألب أرسلان نصيحة فقيهه أبي نصر البخاري، في موقف يُذكِّر بمشهد مشابه وقع بعد أربعة قرون عندما استمع السلطان العثماني محمد الفاتح لشيخه آق شمس الدين قبيل فتح القسطنطينية، وفي يوم الجمعة 19 أغسطس/آب 1071م (463هـ)، صلّى ألب أرسلان بالجيش وقد غلبه البكاء فبكى معه الجنود، ودعا الله وابتهل، ومع اقتراب المعركة ترجّل عن فرسه، وسجد على الأرض يبكي ويدعو، ثم ركب وانطلق مع جيشه لاقتحام صفوف الروم.

مع هذا الاقتحام تمكّن الجيش السلجوقي من التغلغل وسط صفوف العدو، وغطّى الغبار ساحة القتال، فبدأت قوات السلاجقة تضرب بقوة، وقتلت من الروم أعدادا كبيرة، وانكسر الجيش البيزنطي، وأُسر الإمبراطور رومانوس ديوجينيس، في واحدة من أكثر المعارك حسما في تاريخ الصراع بين الشرق الإسلامي والغرب البيزنطي.

وتورد رواية المؤرخ كمال الدين ابن العديم في كتابه "زبدة الحلب في تاريخ حلب" تفاصيل إضافية حول تكتيك استخدمه المسلمون قبيل المعركة، حيث تسرّب بعض أهل ملاذكرد إلى داخل المعسكر البيزنطي وأحدثوا فيه اضطرابا.

حيث يقول ابن العديم: "وشرع أهل منازكرد يتسللون من بينهم فقتلَ الرومُ بعضهم، ونجا الباقون، وترك الروم طريقهم الذي كانوا سالكيه، وعاد ملكهم فنزل في مضاربه (معسكره) بين خلاط ومنازكرد، وباتوا ليلتهم على أعظم قلق وأشده"، وهو ما أسهم في إرباك الجيش البيزنطي قبل ساعات من المواجهة الكبرى، ومن ثم الهزيمة وأسر الإمبراطور البيزنطي.

ويُعد قرار ألب أرسلان بالعفو عن خصمه خطوة مفاجئة من الناحية العسكرية، خاصة أن الحملة البيزنطية كانت تهدف إلى القضاء الكامل على الدولة السلجوقية، لا مجرد استعراض قوة، غير أن الأوضاع الداخلية المعقدة في مناطق النفوذ السلجوقي، خصوصا في وسط آسيا دفعت السلطان إلى تفضيل التسوية السريعة.

كما أن الفدية الكبيرة التي حصل عليها أنهكت الخزينة البيزنطية، وأعقبها لأول مرة اعتراف بيزنطي رسمي بالتبعية السياسية للسلاجقة، وهو ما أثار غضبا واسعا في القسطنطينية، واعتُبر سلوك رومانوس خيانة وطنية، أدت إلى عزله وقتله بعد عودته إلى العاصمة البيزنطية فيما بعد.

مؤرخ بيزنطي يروي تفاصيل الهزيمة

تُشكِّل رواية المؤرخ البيزنطي نقفور برينيوس واحدة من أندر وأهم الشهادات البيزنطية المباشرة عن معركة ملاذكرد، المعركة التي قلبت موازين القوى في الشرق وفتحت الباب أمام السيطرة الإسلامية على كامل الأناضول، وقد نقل برينيوس تفاصيل المعركة عن جده الذي كان القائد العسكري للجناح الأيسر في الجيش البيزنطي خلال تلك المواجهة المصيرية، ما يمنح روايته مصداقية نابعة من معاينة ميدانية للأحداث.

يذكر برينيوس أن الإمبراطور رومانوس ديوجينيس أُصيب بالغرور بعد نجاحه في السيطرة على مدينة منبج وبعض القلاع في شمال الشام خلال حملة عسكرية عام 462هـ/1070م، إذ لم يواجه مقاومة تُذكر، هذا النجاح المحدود دفعه إلى الدعوة لاجتماع موسّع مع قادته ومستشاريه لوضع خطة شاملة تهدف إلى استئصال قوة السلاجقة المتنامية في جنوب وشرق الأناضول.

إعلان

وخلال هذا الاجتماع، طُرح خياران: الأول الزحف شرقا لمهاجمة قلب الدولة السلجوقية في إيران، والثاني التمركز داخل حدود الإمبراطورية وانتظار السلاجقة، ومع خطر الزحف دون الإعداد الكافي، قرر الإمبراطور المُضي في الخطة الهجومية رغم اعتراض عدد من كبار قادته، وهو القرار الذي أدى في النهاية إلى هزيمة كارثية كان لها أثر بالغ على مستقبل الإمبراطورية البيزنطية، وسرّع من الانهيار التدريجي لهيمنتها في الأناضول.

فبحسب ما ينقله المؤرخ البيزنطي نقفور برينيوس، فإن أحد أبرز الأخطاء الإستراتيجية التي ارتكبها الإمبراطور رومانوس ديوجينيس قبيل معركة ملاذكرد تَمثَّل في تقسيم جيشه إلى قسمين، حيث تولى هو قيادة القسم الأول وتوجه به نحو ملاذكرد التي سيطر عليها بالفعل، فيما أسند قيادة القسم الثاني إلى قائده الخبير جوزيف ترخانيوتس، الذي كان أحد أبرز معارضي خطة التوغل العميق داخل أراضي السلاجقة، وقد أوكل إليه مهمة التوجه إلى مدينة خِلاط (أخلاط) جنوب ملاذكرد لتأمينها وانتزاعها من أيدي السلاجقة.

لكن ترخانيوتس -وفق شهادة برينيوس- كان يائسا من القرار الإمبراطوري، إذ سبق أن نصح رومانوس بعدم تفريق القوات في منطقة توجد فيها وحدات تركية قريبة، ودعاه إلى الإبقاء على الجيش موحَّدا داخل المعسكر، غير أن الإمبراطور تجاهل هذه النصائح وأصر على تنفيذ خطته، ما اضطر ترخانيوتس إلى التوجه نحو خلاط، التي وقعت فعلا في شراك السلاجقة.

في المقابل، يصف برينيوس خطة ألب أرسلان العسكرية بأنها كانت مُحكمة وذكية، فقد اعتمد السلاجقة على تكتيك الكر والفر لاستدراج البيزنطيين إلى المواقع التي يريدونها، وتمكَّنوا عبر هذا الأسلوب من الإيقاع بعدد من الوحدات البيزنطية، كما امتاز السلطان السلجوقي في نظر برينيوس بقدرة عالية على تنظيم قواته وتوزيعها إلى وحدات صغيرة متنقلة، نشرها حول المعسكر البيزنطي بشكل دقيق.

وضع ألب أرسلان وحدات استخباراتية في مقدمة جيشه لجمع المعلومات ورصد تحركات العدو، وأمر بانتشار فرق خفيفة الحركة حول البيزنطيين، كانت مهمتها نصب الكمائن واستنزاف قدرات الخصم قبل اندلاع المعركة الحاسمة.

وفي اللحظة المناسبة، أمر بإطلاق وابل كثيف من السهام على الخيّالة البيزنطيين، ما أربك صفوفهم ومهّد لانهيارهم التدريجي، الذي بلغ ذروته في المعركة الكبرى التي انتهت بأسر الإمبراطور وهزيمة الجيش البيزنطي شر هزيمة.

عند انطلاق وابل السهام السلجوقية على الخيالة البيزنطيين تراجعت صفوفهم الأولى تحت الضغط، فتقدمت وحدات الجيش البيزنطي الرئيسية لمساندتهم، غير أن السلاجقة عمدوا إلى التظاهر بالانسحاب ما دفع القوات البيزنطية إلى مطاردتهم في عمق الميدان. هذا التكتيك أوقع الجيش البيزنطي في فخ محكم، إذ تعرضت مؤخرته لهجوم مباغت من وحدات سلجوقية كانت تترصد تحركاته، فألحقت به خسائر كبيرة.

وبحسب وصف المؤرخ نقفور برينيوس، فإن السلاجقة "أحاطوا بالإمبراطور إحاطة الدائرة بمعصم اليد"، حيث عزلوا جناحه الأيسر تماما، وقطعوا عنه كل وسائل الدعم، ومع انفصال قلب الجيش البيزنطي عن بقية التشكيلات بدأ السلاجقة بإبادة الجنود البيزنطيين بوتيرة متصاعدة، وانتهت المعركة بأسر الإمبراطور رومانوس الرابع وعدد كبير من كبار قادة جيشه، في واحدة من أعظم الهزائم التي مُنيت بها الإمبراطورية البيزنطية في تاريخها الوسيط.

نتائج المعركة بين الأمس واليوم

ترتب على انتصار السلاجقة في ملاذكرد تحولات ديموغرافية واقتصادية كبرى، أبرزها تسارع موجات هجرة التركمان إلى قلب آسيا الصغرى واستقرارهم في مناطق شاسعة كانت خاضعة للسيطرة البيزنطية، ورافق ذلك انشقاقات داخلية في بنية الدولة البيزنطية، وبدأ "الرومان اليونانيون" ينسحبون تدريجيا نحو الغرب، تاركين أراضي واسعة بلا سكان.

استطاع فريق آثار تركي العثور على معدات استخدمت في معركة ملاذكرد إضافة إلى مجموعة قبور لشخصيات شاركت في الحرب (الأناضول)

هكذا شكَّل التركمان نواة الوجود السياسي والعسكري الدائم في الأناضول بعد معركة ملاذكرد، فأسسوا عددا من الإمارات المستقلة بين عامي (463هـ-470هـ/1071م-1077م) في مناطق مثل ماردين وقيصارية وسيواس وتوقات ومرعش وأرزنجان في شرق ووسط الأناضول. غير أن هذا التشتت لم يدم طويلا، ففي عام 470هـ، تمكن ابن عم السلطان، الأمير السلجوقي سليمان بن قتلمش من التقدم نحو الأناضول انطلاقا من حلب، ليؤسس كيانا سياسيا موحدا عُرف تاريخيا باسم "دولة سلاجقة الروم" أو "سلاجقة الأناضول".

إعلان

وتتفق المصادر على أن سليمان بن قتلمش نجح في تحقيق هذه الأهداف السياسية والعسكرية التي أرست دعائم دولة إسلامية جديدة في آسيا الصغرى، كانت بمنزلة اللبنة الأولى التي مهّدت لقيام الدولة العثمانية في القرون اللاحقة.

ومن اللافت أن معركة ملاذكرد خلصت إلى نتائج مفصلية في التاريخين الوسيط والحديث، فقد كانت بمنزلة اليرموك الثانية التي طردت البيزنطيين من الأناضول، كما طردت اليرموك الأولى البيزنطيين من بلاد الشام.

ولعل من أبرز تلك النتائج اندلاع الحروب الصليبية عما قليل، حيث شكَّلت هزيمة الجيش البيزنطي، وعدم قدرة الإمبراطورية البيزنطية الرومانية على إنشاء قوة جديدة لوقف الزحف السلجوقي، صدمة كبيرة في أوساط أوروبا الغربية، وأثارت مخاوف جدية بشأن مستقبل المسيحية في الشرق.

ورغم الخلاف المذهبي الذي وقع بين الكنيسة الغربية في روما والكنيسة الشرقية في القسطنطينية قبل ذلك، فإن الغرب الكاثوليكي ظل يرى في الدولة البيزنطية السد الأخير أمام التوسع الإسلامي نحو أوروبا، وبناء على ذلك دعا عدد من البابوات، وفي مقدمتهم البابا جريجوري السابع (1073-1085م)، ثم البابا أوربان الثاني (1088-1099م) إلى نصرة بيزنطة، وكان هذا التوجه تمهيدا لإطلاق الحملات الصليبية التي ستجتاح المشرق بدءا من أواخر القرن الحادي عشر.

ومهما يكن فإن معركة ملاذكرد لم تكن فقط لحظة انتصار عسكري، بل كانت منعطفا حضاريا وسياسيا طويل الأثر، حيث شكّلت بداية التغيرات الكبرى التي ستؤثر في مصير الشرق الإسلامي وأوروبا المسيحية على حدٍّ سواء، من العصور الوسيطة وحتى العصر الحديث.

ونظرا لأهميتها التاريخية الممتدة عبر الزمان والمكان، ودورها الرمزي في تركيا القديمة والمعاصرة، يحرص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الذهاب إلى ساحة معركة ملاذكرد وأخلاط كل عام للاحتفال بها، وإحيائها باعتبارها رمزا للنصر والوحدة السياسية، وجزءا من الهوية الثقافية والقومية والتاريخية في البلاد.

0 تعليق